قبل بدء لقاء منتخبيْ البرازيل وألمانيا في الدور نصف النهائي من منافسات كأس العالم 2014، في ملعب المينيراو، في البرازيل، كانت الأجواء الكرنفاليّة تسود في المدرجات، مع توقعات شديدة الحذر بهوية الفائز من بين المنتخبين القويّين. بعد مضي أقل من نصف ساعة، كان العالم كلّه شاهدًا على كارثة كبرى حلّت بالبرازيليين، إذ سجل الألمان خمسة أهداف في 18 دقيقة، حينها صاح رؤوف خليف، أحد أكثر المعلقين شهرة في الوطن العربيّ: «هذه فضيحة كروية (..) الألمان هم برازيل العالم».
كيف جرى ترسيخ صورة البرازيل في العالم بوصفها بطلة ومهدًا للعب الساحر لدرجة خلط المعلقين (بوصفهم فئة تلتزم الحياد ما أمكن) بين مفردتي بطل وبرازيل؟ لماذا تتوجه الأنظار دومًا إلى أمريكا الجنوبيّة كلّما دار الحديث عن كرة القدم الممتعة؟
السود
انتزع السود والكريول في البرازيل حقّ لعب كرة القدم في الأندية بدايات القرن الماضي بالمهارة لا بالمطالبة؛ إذ لم يكن مسموحاً لهم اللعب في الأندية، قبل نتائح فريق فاسكو دي غاما سنة 1923، إذ استطاع الفريق الذي ضمّ على غير العادة سوداً في صفوفه التأهل لمصاف الدرجة الأولى، متجاوزاً النوادي الأخرى التي منعت لعب السود في صفوفها. وهكذا «لم تصبح كرة القدم في البرازيل برازيليّة فعلاً إلّا عندما تمكن اللاعبون السود من الانضمام للفرق الكبرى».
رغم الأداء الجميل الذي كانوا يقدّمونه، إلّا أنهم ظلوا يعانون من الممارسات العنصرية، كأن يُطرد اللاعب منهم لمجرّد مروره إلى جانب اللاعب الأبيض. وهذا ما أدّى إلى وجود شكل لعب مختلف عند السود، تقول إحدى هذه النظريات: تجنب السود الاحتكاك بالبيض في الملعب، وهكذا «أخذوا يُطوّرون مهاراتهم الخاصة في الاحتفاظ بالكرة، والدوران حول دفاع الخصم، والتسديد من مسافات بعيدة».
ربمّا يكون في هذه النظرية مبالغة، غير أنَّ الأخبار عن المدافع البرازيليّ دومنغوز داجويا، والذي لعب في ثلاثينات القرن الماضي تؤكد ذلك: «عندما كان صغيراً كان يخاف أن يلعب كرة القدم، لأنَّه كان يرى اللاعبين السود يُضربون داخل الملعب إذا ما اصطدموا ولو بطريق الخطأ مع أحد اللاعبين البيض»، يؤكد اعتراف داجويا ذلك: «كان أخي الكبير يقول لي: حرّك قدميك كأنك ترقص، ناور خصمك ولا تدعه يأخذ كرتك، هكذا أصبحت أرقص حول الكرة».
يُلمح اللاعب البرازيليّ سقراط ( 1954- 2011) لهذه المسألة، ولو بشكل غير مباشر. عندما سأله أحد الصحفيين عن سرّ تراجع أداء المنتخب البرازيليّ قبيل كأس العالم 2002 (لم يكن المنتخب قد تأهل بعد، وقد عانى كثيراً قبل التأهل) فأجاب: «نعم، هناك مشكلة تُواجه الكرة البرازيليّة، إذ أصبح معظم اللاعبين من البيض، بينما أعتقد أنَّ اللاعبين السود مؤهلون أكثر من غيرهم للّعب»، ردَّ الصحفي والكاتب أليكس بيلوس على اللاعب الذي كان قادراً على فعل كلّ شيء في الملعب: «لكنك أبيض». ضحك سقراط وأجاب: «نعم، ولكن هناك جانب أسود في داخلي».
خيال كرة القدم
أكثر من غيرهم، يكسر لاعبو أمريكا الجنوبيّة أنظمة كرة القدم التي اعتاد الجميع رؤيتها، كأن يكون حارس مرمى هدافاً، يُعد الحارس البرازيليّ روجيرو سيني الحارس السابق لفريق ساوباولو أكثر حارس مرمى في التاريخ تسجيلاً للأهداف؛ فقد أحرز 155 هدفاً، يليه جاره الحارس الباراغوياني خوسيه لويس تشلافيرت، وفي أمريكا الجنوبية أيضًا من الطبيعي أن ترى حارسًا يُراوغ خط هجوم الفريق الخصم حتى وإن خسر الكرة مثل الحارس الكولومبيّ هيجيتا، الذي قدم فرديات خطرة أمام مرماه في أكثر من مرّة، بالإضافة إلى تصدياته الاستعراضيّة بلعبة مزدوجة خلفية والتي اصطلح عليها بصدة العقرب.
ولن ينتهي الأمر بتمرير الكرة دون النظر لها أو خداع الفريقين معاً خلال تنفيذ كرة ثابتة، أو تسجيل أهداف باليد احتيالاً على الحكام، ومراوغة نصف الفريق حين تغلق كلّ إمكانيات الوصول لمرمى الخصم.
ربّما كانت هذه الارتجالات التي ذكرتها جديدة (منذ أواخر سبعينيات القرن الماضيّ) لكن يبدو أنَّ لها أصلاً قديماً في عشرينيات القرن الماضي، إذ يصف مقال رياضي في صحيفة (إل جراف) الأرجنتينية عام 1928 طريقة اللعب في الأرجنتين بأنَّها «روح لا تهدأ». يتابع المقال: «سرعان ما بدؤوا في تعديل عِلم اللعبة [خلافاً للطريقة الأنجلو ساكسونيّة] وتشكيل طريقة لعب خاصة بهم، إنها تختلف عن طريقة اللعب البريطانية في أنها أقلّ في أحادية اللون، وأقلّ انضباطاً ومنهجيّة. كانت اللعبة تتباعد بشكل حادّ عن النموذج الأصليّ لها [البريطاني]، حيث «ساد الاحتفاء بالفردية والتعبير عن الذات».
تكتيك المساحات الضيقة
يقدم عالم الأنثروبولوجيا إدواردو آرتشي تفسيراً لخروج اللاعبين في أمريكا الجنوبيّة عن نظام كرة القدم المتفق عليه ضمناً: «إنِّ الظروف المختلفة تتطلب أسلوباً مختلفاً (…) إنَّ المناطق الأشدّ فقراً ضيقة، المساحات في بوينس آيرس ومونتيفيديو تتطلب مهارات أخرى، وهكذا وُلد أسلوب جديد هو طريقة لعب كرة القدم من الداخل (…) حيث لاعبو كرة القدم يبتكرون لغتهم الخاصة في هذه المساحة الصغيرة، حيث اختاروا الاحتفاظ بالكرة والاستحواذ عليها بدلاً من ركلها».
كانت كرة القدم في أوروبا، بحسب وصف جوناثان ويلسن مؤلّف كتاب: الهرم المقلوب.. تاريخ تكتيكات كرة القدم، تدريبات الفرق المحليّة بأنها عكس اللعب في أمريكا الجنوبيّة حيث التركيز على الإعداد البدنيّ العالي وسرعة الجري، يقول: «أما التدريب بالكرة فكان يُعد غير ضروريّ، أو حتى ضاراً. جدول التدريب لفريق توتنهام عام 1904 مثلاً يُظهر فقط حصتين في الأسبوع بالكرة». يصف ويلسن أجواء التدريب في تلك الفترة بأنه يُمكن لفريق توتنهام أن يكون متنوراً حيال هذه الطريقة مقارنة مع فرق أخرى إذ كان الاعتقاد السائد حينها يقول: «اعط اللاعب كرة قدم طوال الأسبوع، ولن يشتاق للعب يوم السبت» (يوم المباراة).
عندما يضيق الواقع، يلجأ الناس للخيال، وللتعبير عن الذات والفرديّة، ويقلّدهم من يفكر مثلهم، بحسب تفسير سقراط مثلاً. أكثر من غيرهم قدم لاعبو أمريكا الجنوبيّة فرديات و خروجًا على أنظمة كرة القدم التي اتفق عليها ضمناً، كل هذه الفرديات يمكن أن نُطلق عليها خيال كرة القدم.
هويّة بديلة
وفرّت كرة القدم في أمريكا الجنوبيّة هويّة بديلة عن الانتماء للدولة. ففي الوقت الذي أطاحت فيه الانقلابات والديكتاتوريات والثورات والحروب الأهليّة وحوادث الاختطاف الجماعيّ والفقر بأي أمل بالانتماء للبلد، منحت كرة القدم الناس انتماءً بديلًا،؛ الانتماء للمنتخب وللفريق.
يلتقط الكاتب الأروغواياني إدوارد غاليانو فكرة بسيطة يكررها معظم مشجعي كرة القدم حول العالم دون أن يقول المزيد عنها، يقول: «نادراً ما يقول المشجع: اليوم سيلعب ناديَّ، إنه يقول عادة اليوم سنلعب نحن (…) ياللأهداف التي سجلناها عليهم، يا للدرس الذي لقناهم إياه (..) لقد غشونا مرة أخرى، يا للحكم اللص».
هكذا يضع المشجع نفسه ضمن كادر فريقه، ويجعل كل ما يجري للفريق يجري عليه شخصيّاً.
نستذكر محاولة الديكتاتور التشيلي أوغستو بينوشيه إجبار الناس على الانتماء له، ولذا عيّن نفسه رئيساً لأحد أفضل الأندية هناك؛ كولو كولو. هكذا صار الانتماء للفريق أسهل من الانتماء للبلد عند الفقراء.
الشعبيّة
في مدينة بارنكيا الكولومبيّة ولدت في الخمسينيات جماعة ثقافيّة ضمت مجموعة من الكتاب والصحفيين والمثقفين المميزين، ليس من كولومبيا وحدها إنما من أمريكا الجنوبيّة كلّها، وللتعبير عن وجهة نظرهم أصدروا مجلة ثقافية بعنوان «كرونيكا»، لكنّها اصطدمت بالتمويل.
حاولت المجلّة التغلب على الضائقة المالية من خلال استغلال حضور لاعب كرة القدم البرازيلي هيلينو دي فيرتاس لكولومبيا، حيث جرت الخطط لخروج العدد الأول بتناول هذا الحدث الرياضي، لكن ليس بوصفه خبرًا رياضيًا إنما «كخبر ذي أهمية ثقافية واجتماعية كبيرة».
كتب خيرمان بارغاس تقريرًا عن اللاعب دي فيرتاس، ومع الخبرة التي يتمتع بها بعض صحفيي المجلة ومنهم ألفارو سيبيدا ساموديو، الذي كان مراسلاً لسبورتينغ نيوز الأمريكية، صدر العدد بتاريخ 29 نيسان 1950، وكانت مواد العدد «تتحدى اللغة الاصطفائيّة عسيرة الهضم التي كانت تتأصل في الصحافة الكولومبيّة».
قبل المباراة المقررة في 30 نيسان 1950 نفدت طبعة كرونيكا بالكامل، حيث «لم يكن هناك سلطة بشرية ولا إلهية قادرة على إقناع أحد من الجمهور بأن كرونيكا ليست مجلة رياضيّة».
لقد كانت بداية موفقة للمجلّة على أية حال، لم يعكر صفو البداية غير صدور العدد التالي من المجلة، والعودة إلى المقالات والمواد الثقافيّة، حيث لم يعرها أحد أي انتباه. يقول غابرييل غارسيا ماركيز أحد كتاب المجلة: «لقد تخلى عنّا متعصبو الملاعب دون أي إحساس بالألم».
بعد 44 عاماً من ذلك، صعد المنتخب الكولومبي إلى كأس العالم في أمريكا 1994، وهناك وبهدف خطأ سجله المدافع الكولومبي أندريس إسكوبار (1967- 1994) في مرماه خلال مباراة أمام الولايات المتحدة خرج المنتخب الكولومبي من البطولة، سيتسبب هذا الهدف بقتل إسكوبار من قبل المافيات الكولومبية بواحد وعشرين رصاصة في تصرف، ربما، يعكس ما تعنيه هذه اللعبة في هذا الجزء من العالم.
ما حصل مع إسكوبار حالة استثنائية، ولن يقتل مواطنو أمريكا الجنوبية لاعبي منتخباتهم من أجل هدف يسجّلونه في مرماهم بالخطأ، ولا لأجل فرصة محقّقة يضيعها أحد لاعبيهم في مباراة حاسمة، وإلّا كان مهاجم المنتخب الأرجنتيني جونزالو هيجوايين قد قتل إلى الآن ست مرّات، على الأقل.
هذا الحب، غير العادي لكرة القدم دفع إدوارد غاليانو للسؤال: «ما هو وجه الشبه بين كرة القدم والإله؟» ليجيب: «إنه الورع الذي يبديه كثيرون من المؤمنون، والريبة التي يبديها كثيرون من المثقفين».
وبسخرية يروي ما فعله القاص والشاعر الأرجنتينيّ بورخيس: «ألقى محاضرة حول موضوع الخلود، في اليوم نفسه، وفي الساعة نفسها، التي كان فيها المنتخب الأرجنتينيّ يخوض مباراته الأولى في مونديال 1978».
تقودنا حكاية مجلّة بارنكيا إلى مسألة شديدة التعقيد، وهي مسألة نظر الكثير من المثقفين الذين يكتبون بـ«اللغة الاصطفائيّة عسيرة الهضم» لهذه اللعبة على أنَّها لعبة غوغاء، وربّما هذا ما يُفسر شكوى غاليانو من تجاهل التاريخ لها إذ أنَّ أحد أبرز الأسباب التي دفعت «طالب التاريخ البائس» غاليانو لإنجاز كتابه: كرة القدم بين الشمس والظل، أن ثمة «فراغ مذهل، [لأن] التاريخ الرسمي يتجاهل كرة القدم، نصوص التاريخ المعاصر لا تذكرها، ولو بصورة عابرة».
متعة الارتجال في كرة القدم هي من وثقت صورة البرازيل ومعها صورة لاعبي أمريكا الجنوبيّة في الأذهان، وربّما دعمتها لغة الأرقام كذلك، إذ حصلت البرازيل على خمس بطولات كأس عالم، وحصلت الأرجنتين على بطولتين، والأوروغواي على اثنتين إحداهما أول بطولة كأس عالم. للعالم كلّه أكثر من النصف بقليل (11 كأس عالم) ولهذه الدول الثلاث أقل من النصف بقليل (9) مع فارق المقاعد المخصصة لكل قارة إذ تحصل أمريكا الجنوبيّة على أربعة مقاعد ونصف فيما تحصل قارة أوروبا منافس أمريكا الجنوبيّة على 13 مقعدًا.
في آخر إحصائيّة للمركز الدولي للدراسات الرياضيّة لشهر مايو 2018 فإن البرازيل أكبر دولة مصدّرة للاعبين المحترفين، برصيد 1202 لاعباً، وتأتي الأرجنتين في المرتبة الثالثة، والأووغواي ذات الملايين الأربعة من المواطنين في المرتبة العاشرة، وما زال العالم يثق بطريقة اللعب الأمريكية الجنوبيّة ولو أنَّ الخلافات والشكاوى من عدم تأقلمهم مع الأندية الأوروربيّة كثيرة.
ما زال سود وكريلو وفقراء أمريكا الجنوبيّة يقدمون خيال كرة القدم، بالإضافة إلى رقصاتهم حتى وإن كانت هذه الرقصات من غير كرة. جميع مشجعي برشلونة شاهدوا اللاعب الكولومبيّ ياري مينا وهو يرقص في حفل تقديمه لنادي برشلونة، ورقصته المشهورة أثناء تسجيله هدفاً من ركلة جزاء في بطولة ثانوية مع برشلونة في حنين قديم لرقصات أجداده في الأحياء الفقيرة بأمريكا الجنوبيّة.
يجري الحديث هذه الأيام عن إعارة مينا لعدم تأقلمه مع طريقة اللعب الأوروربيّة، (لم يكمل اللاعب موسماً واحداً بعد مع الفريق الكاتلونيّ). جاء مينا من أمريكا الجنوبيّة لأوروبا كي يرقص أثناء اللعب وهو ما لا يُريده مدربو كرة القدم على أية حال
-
الهوامش
1-غابرييل غارسيا ماركيز، عشت لأروي
2-إدواردو غاليانو، كرة القدم بين الشمس والظل
3-جوناثان ويلسن، الهرم المقلوب، تاريخ تكتيكات كرة القدم
4-أليكس بيلوس، كرة القدم، الحياة على الطريقة البرازيلية