رأي

لصالح مَن يُنظَّم قطاع الاتصالات؟ قراءة في مسودة سياسة عامة

الأربعاء 12 أيلول 2018
وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات مثنّى الغرايبة (يسار) مع المدير التنفيذي السابق لشركة زين أحمد الهناندة، خلال لقاء في حزيران الماضي.

تحديث: في نهاية آذار من 2019، أقر مجلس الوزراء السياسة العامة لقطاع الاتصالات. بالرغم مما ورد في مسودة السياسة السابقة التي يتناولها مقال الرأي هذا، إلا أن السياسة النهائية احتوت على نص صريح يؤكد على أهمية توفير خدمات الاتصالات وفقًا لمبدأ حيادية الشبكة الذي يفرض المساواة بين التطبيقات والخدمات، «وألا يتم التمييز واحتساب الرسوم بناء على من هو المستخدم أو ما هو المحتوى أو الموقع الالكتروني أو المنصة أو نوع التطبيق أو نوع المعدات المتصلة أو طريقة الاتصال» (فقرة 24). إلا أن السياسة أبقت على تكليف الوزارة لهيئة تنظيم قطاع الاتصالات بالقيام بمراجعة لسوق الاتصالات تتركز على دراسة «الخدمات التي تشبه الاتصالات وتقدم عبر شبكة الإنترنت»، بالإشارة لما سمته التطبيقات الفوقية أو OTT.

خلال السنوات الماضية، لم تتوانَ شركات الاتصالات عن التلحين على أنغام تنظيم خدمات المكالمات الصوتية عبر الإنترنت عبر تطبيقات مثل «سكايب» و«فايبر» و«واتساب». حجتها في ذلك أن هذه التطبيقات تستخدم شبكة شركات الاتصالات دون مقابل، وتنافس خدمات شركات الاتصالات الصوتية دون أن تتكبد رسوم الترخيص والضرائب التي يدفعها المشغلون للحكومة الأردنية. أول محاولة للتدخل في هذه التطبيقات كانت في 2015 عندما أعلنت شركات الاتصالات الأردنية فرض رسوم إضافية على مكالمات «واتساب» و«فايبر» و«سكايب». تراجعت هذه الشركات بعد رفض هيئة تنظيم قطاع الاتصالات. في 2017، جددت شركات الاتصالات المحاولة لكن هذه المرة باتفاق مع الحكومة. حينها، اقترحت وزارة الاتصالات ضريبة جديدة على هذه التطبيقات تقتسم عوائدها مع شركات الاتصالات، ضاربةً بذلك عصفورين بحجر. الأول، زيادة الإيرادات إلى خزينة الدولة، والثاني، زيادة إيرادات القطاع الذي يبكي أرباحه بسبب هذه الخدمات. على إثر هذا الخبر انطلقت حملات شعبية تدعو لمقاطعة شركات الاتصالات، رافضةً أي ضريبة إضافية على فاتورة الاتصالات. النصيب الأكبر من حملات المقاطعة نالت شركة «زين» بعد أن غرد مديرها التنفيذي بـ«بنخليك تدفع بدل الـVPN»، ردًا على اقتراح أحد المواطنين الالتفاف على الضريبة باستخدام خدمة الـVPN (الشبكات الافتراضية الخاصة).

هدأت محاولات شركات الاتصالات العلنية لتنظيم ما تسميه «التطبيقات الفوقية» (Over the Top Services – OTT)، لكنه كان هدوءًا مؤقتًا. فجاءت «السياسة العامة لقطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات للأعوام 2018- 2025» -التي أطلقت وزارة الاتصالات مسودتها الأولى في نيسان 2018- لتكون المساحة التي لجأت إليها «زين» و«أورانج» و«أمنية» وجمعية شركات تقنية المعلومات الأردنية «إنتاج» لإعادة طرح اقتراحها بفرض رسوم وضرائب على هذه التطبيقات والخدمات، دون مواجهة مباشرة مع الرأي العام. وبعد دراسة هذه المقترحات وغيرها، طرحت الوزارة في تموز من هذا العام المسودة الثانية للسياسة، التي يفترض أن تأخذ «الصفة القانونية الخاصة، حيث أنها تحدد الإطار الذي يجب على هيئة تنظيم قطاع الاتصالات أن تعمل بموجبه».

في سابقة من نوعها، نشرت وزارة الاتصالات الملاحظات التي وردتها على المسودة الأولى للسياسة، والتي تم تبني العديد منها في المسودة الثانية. تأخذنا هذه الملاحظات في رحلة إلى العقل الباطني لشركات الاتصالات وجمعية «إنتاج»، وتعكس بعض توجهاتها والصلاحيات التي تطمح إليها على شبكتها. فتقول شركة «زين» إن «على السياسة توجيه هيئة تنظيم قطاع الاتصالات بإزالة أية سياسات متعلقة بحيادية الإنترنت». أما شركة «أمنية» فتطلب أن تعلن السياسة تأثر شركات الاتصالات بما تسميه «التطبيقات الفوقية» وتطلب من الهيئة أن «تحجب هذه التطبيقات كما في الصين أو الإمارات، أو أن ترغم الشركات المطوِّرة لهذه التطبيقات على المُساهمة في استثمارات البنية التحتية». تذهب «إنتاج» إلى أبعد من ذلك، وتطلب تطوير حوافز استثمارية لشركات الاتصالات تتضمن «حجب وتعطيل وإعطاء أولوية لأنواع معينة من الحُزم».

من خلال مراجعة الملاحظات التي أدرجت على المسودة الأولى، نقدم في هذا المقال قراءة نقدية لنظرة كل من الحكومة والقطاع الخاص للبنية التحتية للاتصالات التي تؤثر على معظم القطاعات الاقتصادية في الدولة، إلى جانب قراءة أثر هذه النظرة على حقوق أكثر من ستة ملايين مستخدم وفرصهم في بيئة إنترنت تنافسية عادلة، تحمي حقهم في التعبير من تدخلات القطاع الخاص وتُشجع على الابتكار.

كيف تنظر الحكومة إلى مصلحة قطاع الاتصالات؟

في القسم المتعلق بـ«تحسين أداء قطاع الاتصالات»، يسيطر على مسودة السياسة خطابٌ يربط تطوير القطاع بحماية مصالح المُشغلين الاستثمارية. فمن البداية، تقول المسودة إنه «إذا تعرضت ربحية المشغل للضغط بشدة، فمن المرجح أن يتم تثبيط الاستثمار وأن القطاع سيصاب بالركود». وفي موضع ثانٍ في القسم نفسه، تذكر أنها تسعى لـ«تعزيز قيام مشغلي الاتصالات ومزودي الخدمات بتوليد أرباح مناسبة من أجل تشجيع تطوير الشبكة مع حماية مصالح المستفيدين».

رغم أن الشبكة أصبحت المصدر الأساسي للمعرفة والبيانات والمُعاملات في الجامعات والمدارس والمستشفيات وقطاع المجتمع المدني واقتصاد الخدمات والتكنولوجيا ولدى عموم المواطنين، إلا أن مسودة السياسة تخلق تراتبية مصالح فيما يتعلق بتطوير قطاع الاتصالات يقع في أعلاها مصالح المُشغلين، في ظل غياب تامٍ لمصالح المستفيدين من هذه الشبكة في القطاعات المختلفة. يظهر ذلك بقوة في اختزال توصيات «تحسين أداء الشبكة» بدراسة تُكلف الوزارة بها هيئة تنظيم قطاع الاتصالات. تهدف هذه الدراسة، وهي المُقترح الوحيد في في هذا القسم من المسودة، إلى تقييم أثر الخدمات والتطبيقات («واتساب»، «تِلِغرام»، «سكايب»، «نِتفلِكس») على استثمارات القطاع بحجة توفير «أساس عقلاني للتنظيم المستقبلي وتحديد الضرائب وغيرها من الرسوم المفروضة على القطاع».

تساوي السياسة مصالح قطاع الاتصالات بمصالح المُشغلين. فتربط «قوة الشبكة» وإمكانية تطويرها بزيادة العوائد الاستثمارية لشركات الاتصالات، وتربط زيادة هذه العوائد بتنظيم الخدمات والتطبيقات عبر الإنترنت المنافِسة لخدمات المُشغلين. بذلك، تعيد هذه الرؤية تعريف دور الدولة في تنظيم أي قطاع تمت خصخصته، فتُحيد هذا الدور عن حماية مصالح المستخدم والمصلحة العامة من هيمنة القطاع الخاص وتسلطه.

كيف تنظر الشركات إلى المُحتوى الذي يمر عبر الشبكة؟

تطرح مسودة السياسة كذلك تصورًا لصلاحيات المُشغلين المسؤولين عن البنية التحتية للشبكة، بحيث تربط مسؤوليتهم عن الاستثمار بتدني أو ارتفاع أرباحهم الناتجة عما يمر عبر هذه الشبكة. هذا الربط يعبث بمبادئ «عدم التمييز» التي يجب فرضها على أي قطاع خاص يملك البنية التحتية لأي شبكة نقل مشتركة، سواء كانت الطريق الصحراوي أو شبكة الإنترنت. لنتخيل مثلًا أن الحكومة خصخصت الطريق الصحراوي كما خصخصت البنية التحتية لشبكة الإنترنت، وأن الشركة المالكة للطريق الصحراوي قررت أن تفرض رسوم مرور إضافية على شاحنات النقل التي تمر في الطريق فقط لأنها تنافس خدمة الشحن التي توفرها أيضًا الشركة المالكة نفسها. ألا يشكل السماح بذلك انحيازًا لصالح الشركة؟

«بالاستناد إلى الممارسات الفضلى العالمية، لا يجب على المُشغلين تحمل أي مسؤولية قانونية لأي محتوى غير قانوني يمر عبر شبكتها. يُوفر هذا المحتوى من قبل جهات ثالثة وليس للمُشغلين سيطرة عليه». كانت هذه مُلاحظة شركة «زين» الرافضة لاقتراح تعديل قانون الاتصالات لتنظيم المُحتوى «غير القانوني» في المُسودة الأولى. تظهر شركة «زين» وكأنها تُؤمن بمبادئ حيادية الشبكة التي تجعل من المشغلين مجرد «وسطاء» للمحتوى المار عبر شبكتها بغض النظر عن نوعه. يتوافق هذا الموقف مع توصيات «مبادئ مانيلا» (2015) التي تنظم علاقة الشركات الوسيطة بالمحتوى الذي يمر عبرها والتي نالت توقيع مئات الجهات التنظيمية.

رغم أن الشبكة أصبحت المصدر الأساسي للمعرفة والبيانات والمُعاملات في الجامعات والمدارس والمستشفيات والتكنولوجيا ولدى عموم المواطنين، إلا أن مسودة السياسة تخلق تراتبية مصالح فيما يتعلق بتطوير قطاع الاتصالات يقع في أعلاها مصالح المُشغلين.

إلا أن «زين» تستعين بالممارسات الفُضلى فقط حين يتعلق الأمر بمسؤوليتها القانونية، وتضرب بها عرض الحائط عندما يتعلق الأمر بتنظيم «التطبيقات الفوقية». ففي ورقة الملاحظات ذاتها، تطلب التحكم ببعض المحتوى عن طريق «تنظيم التطبيقات الفوقية في أقرب وقت». كما تطلب في موضع آخر إزالة أي سياسة تضمن حيادية الإنترنت، مستندةً إلى قرار الهيئة الأمريكية الفيدرالية لتنظيم قطاع الاتصالات (FCC) بالعودة عن قانون «الإنترنت المفتوح 2015» الذي يضمن حيادية الشبكة. أما «أمنية»، فتطلب الاقتداء ببعض أكثر البلدان قمعية في الحريات الرقمية (الصين والإمارات) لحجب التطبيقات، وتشد «إنتاج» على يدها.

هكذا، تنتقي شركات الاتصالات ما يحلو لمصالحها من الممارسات العالمية في «حيادية الإنترنت». فإذا بدأنا بقرار الهيئة الأمريكية (FCC)، تتجاهل شركة «زين» أن هذا القرار لا يعد نافذًا بتصويت الهيئة وحدها، إذ مرّ بمجلس الشيوخ الذي صوّت بردّه في أيار من هذا العام، والآن ينتظر عرضه على مجلس النواب الأمريكي. وفي مطلع أيلول الحالي، وافقت ولاية كاليفورنيا على قانون يحفظ حيادية الإنترنت ويحدد صلاحيات المُشغلين تجاه المحتوى ويمنع أي تعاقد بين شركات الاتصالات ومزودي المحتوى يمنح أيًا منهم «أولوية الوصول» على الشبكة. أما الاتحاد الأوروبي، فتبنى عام 2015 قرارًا يمنع مشغلي الخدمة وشركات الاتصالات من الحجب أو تبطيء سرعة الإنترنت لخدمات مُعينة دون أخرى، إلا في استثناءات معينة. تتضمن هذه الاستثناءات «إدارة سير الحُزم وفق قرار قضائي، أو بهدف ضمان سلامة وأمن الشبكة، وإدارة الازدحام، شريطة أن يكون هنالك تكافؤ مروري». ومع ذلك، ما زال هذا القانون محطّ انتقاد المجتمع المدني الأوروبي لأن شركات الاتصالات تستطيع عبره أن توفر خدمات (zero-rating) المجانية، كخدمة تصفح الفيسبوك مجانًا كما في عروض المشغلين المحلية في الأردن. الهند، موطن الاقتصاد الرقمي، باتت تصنف كإحدى أشد الدول حماية لمبدأ «حيادية الإنترنت»، بعد أن أقرت في منتصف هذا العام قانونًا يمنع «أي نوع من التمييز بين البيانات أو التدخل فيها»، حتى خدمات (zero-rating)، مثل تطبيق فيسبوك (Free Basics).

إذن، ترى شركات الاتصالات و«إنتاج» في تصنيفها للمُحتوى الذي يمر عبر شبكتها حسب ما يفيد أرباحها حقًا مكتسبًا، دون أن يكون لذلك أي مرجع دولي. فتتبنى مصطلح «التطبيقات الفوقية» (OTT) لفصل هذه التطبيقات عن باقي محتوى الإنترنت، وتصف التطبيقات بـ«الخارجة عن قانون قطاع الاتصالات»، كما لو أن الشركات المالكة لهذه التطبيقات هم مُشغلون خارجون عن القانون أيضًا.

هل الدفاع عن «حيادية الإنترنت» وقوفٌ بصف الشركات المهيمنة على خدمات الإنترنت؟

كان الدفاع عن مبدأ «حيادية الشبكة» في الهند السبب وراء توقف شركات الاتصالات عن تقديم فيسبوك لخدمة (Free Basics) أو أي حزم تفضيلية لتطبيقات التواصل الاجتماعي، مثل الحُزم التي تقدمها كل من «زين» و«أورانج» و«أمنية» حاليًا. بالتالي، فإن خُطط هذه الشركات (مثل فيسبوك ومايكروسوفت ونِتفلكس) وأحلامها بالمزيد من الهيمنة تتأثر بضمانات «حيادية الشبكة» للمحتوى. تدعي السياسة بأن تنظيم ما تسميه «التطبيقات الفوقية» سيحمي تنافسية القطاع، وكأن التنافسية هي مصالح شركات الاتصالات وحدها. وتكمن الغرابة في تبني جمعية «إنتاج»، الممثلة للقطاع الخاص بما يشمل الشركات الصغيرة والصاعدة، لهذا الخطاب. إذ تصطف الجمعية بجانب شركات الاتصالات وتطلب السماح لها بـ«حجب وتعطيل الخدمات» التي تنافس خدماتها. هنا، تتعدى الجهة التي تدعي تمثيل مصالح قطاع التكنولوجيا والاتصالات على حقوق أي شركة ريادية محلية بالمرور العادل في الشبكة إذا رغبت في تقديم نفس الخدمات التي تقدمها شركات الاتصالات.

تتكون شبكة الإنترنت من سبع طبقات، أشدها وضوحًا لنا هي طبقة الأسلاك والكوابل والأجهزة والتي تُسمى «طبقة البنية التحتية»، وطبقة الخدمات والتطبيقات والمحتوى التي تُسمى «طبقة الخدمات». تعتمد طبقة الخدمات على البنية التحتية حتى تصل للمستخدمين، لكن كلًا من هاتين الطبقتين تتطور بمعزل عن الأخرى، كما تتطور السيارات بمعزل عن تطور شبكة النقل.

بمساواتها بين الخدمات والبنية التحتية، تسمح مسودة السياسة للمُشغلين بتجاوز الفروق بين هذه الطبقات والتضخم عاموديًا بحيث يتحكمون بالمحتوى الذي يمر بالبنية التحتية. فما الذي سيمنع شركات الاتصالات من تطوير خدمات محتوى خاص بها ومنحها أولوية المرور على شبكاتها على حساب خدمات محتوى أخرى مُشابهة؟ وبالمنطق نفسه، ما الذي سيمنعها أيضًا من حجب مواقع محتوى ناقد لسياساتها؟ لا يدافع مبدأ «حيادية الإنترنت» عن الشركات الكبرى المُهيمنة على طبقة الخدمات، بل يدعو لإطار تنظيمي يفصل بين تنظيم طبقة الخدمات وتنظيم طبقة البنية التحتية، لضمان حقوق المُستخدم. هذا الإطار التنظيمي يحدد صلاحيات شركات الاتصالات كحُراس لبوابات الشبكة التي يمر المحتوى عبرها، ويحد من قدرة شركات الخدمات المُهيمنة على توسيع هيمنتها عبر اتفاقيات مرور تفضيلية توقعها مع شركات الاتصالات. ليس هذا وقوفًا ضد مصالح هذه الشركات، بل هو دعوة للتفكير بإطار تنظيمي لا يقسم الإنترنت إلى مُشغلين مقابل شركات خدمات، بل يتعامل مع الإنترنت أفقيًا حسب الطبقات الرئيسية المُكونة للشبكة، أخذًا بعين الاعتبار الفروق بينها.

ماذا عن أرباح شركات الاتصالات؟

لا تفوّت شركات الاتصالات فرصةً للتذكير بتدني أرباحها السنوية. نرى هذا الهبوط بالنظر إلى تقارير شركات «زين» و«أورانج» السنوية إذا ما قورنت أرباح 2017 بأرباح 2012. هبطت أرباح «أورانج» في 2013 بسبب «الضرائب الحكومية المرتفعة وارتفاع الكلف التشغيلية» و«المنافسة الحادة»، حسب تقريرها السنوي. وبالرغم من رفع ضريبة المبيعات على الاتصالات من 16% إلى 46% خلال هذه السنوات، تمكنت «أورانج» من رفع أرباحها عام 2017 بالمقارنة بـ2016. تعترف «أورانج» في التقرير ذاته بـ«تضاعف استخدام البيانات أضعافًا كثيرة»، مما أدى إلى ارتفاع إيراداتها بشكل ملموس، كون الإيرادات المتأتية من البيانات لا تخضع للضريبة المفروضة على أرباح شركات الاتصالات والبالغة 10%.

أما شركة «زين»، فقد ارتفعت إيراداتها عام 2017، لكن أرباحها انخفضت، بعكس «أورانج». يُخبرنا الاختلاف في زيادة الأرباح والإيرادات بين الشركات التي تدفع الضرائب نفسها وتعمل في البيئة التنافسية نفسها بأن هنالك عوامل خاصة بإدارة الشركات ذاتها وبقراراتها المالية تؤثر على أرباحها، بمعنى أن ارتفاع إيراداتها رافقه ارتفاع أكبر في النفقات. لكن مسودة السياسة وشركات الاتصالات و«إنتاج» تحاول أن تجد مخرجًا جاهزًا لهذا الهبوط، بإلقاء اللوم على «التطبيقات الفوقية»، رغم أن هذه التطبيقات تزيد من استهلاك البيانات لما تعرضه من البث المرئي والمسموع، وبالتالي من إيرادات الشركات. من الجدير بالذكر أن ملاحظات شركة «أورانج» على «التطبيقات الفوقية» كانت شحيحة، وقد يعود ذلك تبعيتها لشركة «أورانج» الفرنسية التي تلزمها بقواعد الاتحاد الأوروبي.

في مسودة السياسة، تغيب أي توصيات تتعلق بدور هيئة تنظيم قطاع الاتصالات بقياس جودة الخدمات التي توفرها هذه الشركات ومطابقتها للجودة المُعلنة.

ختامًا، كان قطاع الاتصالات من أول القطاعات التي حلت عليها سياسة الخصخصة في الأردن ضمن موجة تحرير الاقتصاد منذ منتصف التسعينيات. في سوق الاتصالات الحر، سلّمت الحكومة شركات الاتصالات ومزودي الخدمة مفاتيح النفاذ لأهم شبكة معلومات في العالم، ولعشرة ملايين شخص في الأردن. في هذه السوق، تصبح شركات الاتصالات شركات ربحية بحتة، تُبنى قراراتها على أساس السعي لتحقيق أكبر ربح ممكن، لا لضمان «المصلحة العامة».

يُصبح دور الحكومة في هذا السوق المفتوح حمايةَ مصالح المُستخدم وضمان فرص تنافسية عادلة. لكن في مسودة السياسة هذه، تغيب أي توصيات تتعلق بدور هيئة تنظيم قطاع الاتصالات بقياس جودة الخدمات التي توفرها هذه الشركات ومطابقتها للجودة المُعلنة. بالإضافة إلى غياب إرساء مبدأ «حيادية الإنترنت» في مسودة السياسة، يغيب أيضًا إلزام شركات الاتصالات بتوفير معلومات كافية وواضحة في عقود المستخدمين عن حقوقهم وخصوصية بياناتهم وطرق معالجة شركات الاتصالات لهذه البيانات، وعن أعطال الخدمات هذه الشركات بما فيها حجب مواقع مُعينة، سواء كان ذلك استجابةً لأوامر قضائية أو إدارية أم أمنية، والتي يعد حجب تطبيق «واتساب» أكبر الأمثلة عليها.

هذه السياسة التي يُفترض أن تُنظم عمل القطاع خلال السنوات الثمان القادمة، هي الرابعة من سلسلة السياسات التي أطلقتها وزارة الاتصالات بهدف تنظيم عمل القطاع منذ 2003. تشترك هذه السياسات بانعدام التقارير التي تقيّم منجزاتها، ولكن ما يُميز مسودة هذه السياسة تحديدًا هو انحيازها الواضح لمصالح شركات الاتصالات.

كلنا أصحاب مصالح في قطاع الاتصالات، ابتداءً من شركات التكنولوجيا الصغيرة، مرورًا بالجامعات والمُستشفيات ومؤسسات المجتمع المدني، ووصولًا إلى المستخدمين. لذا، قد يكون من المهم استغلال الأدوات التي تطرحها وزارة الاتصالات، والإدلاء بآرائنا على المسودة الثانية من السياسة، قبل انتهاء فترة الاستشارة العامة في 15 أيلول. المفارقة أن ضغط شركات الاتصالات للسيطرة على المحتوى من خلال هذه المسودة يحدث في ظل استمرار ورود الشكاوى حول حجب شركات الاتصالات لمكالمات «الواتساب» على شبكات الـ(3G) و(4G)، دون أي مُساءلة. ولعل ذلك يعيدنا للمربع الأول بالتساؤل عن الأهمية الحقيقية لهذه السياسات على أرض الواقع.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية