ديفيد أتنبره

ديڤيد آتينبارا وأصحابه: أبطال خارقون للطبيعة

تصميم محمد شحادة.

ديڤيد آتينبارا وأصحابه: أبطال خارقون للطبيعة

الثلاثاء 31 أيار 2022

«تعتبر الطبيعة -في رأيي- المصدر الأعظم للإثارة، والمصدر الأعظم للجمال المرئي، والمصدر الأعظم للشغف العقلي. إنها المصدر الأعظم للكثير من الأشياء التي تجعل في الحياة ما يستحق الحياة».
– ديڤيد آتينبارا

في الثامن من أيار عام 2022 احتفل المذيع الإنجليزي الأسطوري، السير ديڤيد آتينبارا، بعيد ميلاده الـ96. وفي الشهر نفسه احتفل محبّوه ببث حلقات سلسلة أفلامه الوثائقية الجديدة «كوكب ما قبل التاريخ»، وهو ما تزامن أيضًا مع إتمام السير ديڤيد العام السبعين من مسيرته المهنية الفريدة! سبعون عامًا كاملة قضاها الرجل في تصوير وثائقيات الطبيعة والحياة البرية والتعليق عليها بصوته المميز.

لا يسعنا هنا بالطبع أن نستعرض هذه المسيرة الخرافية، لكنني أحب في هذه المناسبة أن أتحدث قليلًا عما أوقعني شخصيًّا في غرام وثائقيات ديڤيد آتينبارا، عن سلسلة أفلام وثائقية بعنوان «الحياة»، خصَّصَت لها شبكة «بي بي سي» ميزانية إنتاجية غير مسبوقة، فكانت نقلة عملاقة وفتحًا حقيقيًا في تاريخ الوثائقيات. عن تلك اللحظة التي سمعتُ فيها هذه الكلمات:

«كوكبنا هذا وطن لما يقرب من ثلاثين مليون نوع من أنواع الحيوانات والنباتات، كل فرد فيها يخوض -طوال حياته- معركته اليومية للبقاء. فأينما وجّهتَ بصرك -برًّا وبحرًا- وجدتَ أمثلةً مذهلة لتلك الجهود الخارقة التي تبذلها الكائنات، فقط لتبقى حية».

بهذه العبارة القصيرة البليغة بصوت ديڤيد آتينبارا تبدأ سلسلة الأفلام الوثائقية «الحياة»، التي عُرض أول أجزائها العشرة على شبكة «بي بي سي» في أكتوبر 2009 ضمن «موسم داروين» الذي أطلقَته القناة احتفالًا بمرور مئتي عام على مولد عالِم الطبيعة الأشهر تشارلز داروين، ومرور مئة وخمسين عامًا على نشر كتابه «أصل الأنواع»، الذي أذاع العبارة الشهيرة «الكفاح من أجل البقاء». وهي العبارة التي تحدد الفلسفة العامة التي بُنيت عليها سلسلة وثائقيات «الحياة»، فقد اقتصر اهتمام صناع السلسلة على أكثر السلوكيات الحيوانية غرابة وتطرفًا، وأعقد وأعجب الممارسات التي تلجأ إليها الكائنات الحية في طلب الغذاء، والتزاوج، والحفاظ على النسل.

أبطال القنص

جاءت الحلقة الأولى بعنوان «تحديات الحياة» لتعرض هذه الفلسفة عبر أمثلة من مختلَف أنحاء ممالك الكائنات الحية. تبدأ الحلقة بلقطات تُسجَّل لأول مرة، لمجموعة من دلافين خليج فلوريدا، نجحت -خلال رحلة كفاحها من أجل البقاء- في تعلُّم طريقة عجيبة للصيد؛ فهي تتعاون معًا في السباحة في دوائر كبيرة حول تجمُّعات الأسماك، فتُهيّج حركاتُ أذنابها الأفقية القوية ذراتَ الطين الراقدة في القاع، لتصنع حلقات طينية تُحدِق بالأسماك وتخيفها، فتقفز خارج الماء هربًا منها، لتكون الدلافين -خارج الدوائر- في انتظار التقاط وجبة سهلة مشبِعة.

ثم ينتقل بنا الفيلم إلى سهول كينيا، حيث نتعرف على «عصابة» من ثلاثة أشقاء من الفهود الصيادة التي تعلمَت -هي أيضًا- حيلة جديدة لصيد فرائس أكبر كثيرًا من فرائسها المعتادة، فعادةً ما يَستهدف الفهدُ الصياد المنفرد غزالةً صغيرة فيتسابقان سباقهما المميت الذي قد ينتهي بهلاكها أو نجاتها لتحيا يوما آخر. لكن الأشقاء الثلاثة تعلَّموا أن التعاون قد يجني لهم ما يفوق طموحهم، ففي لقطة تُسجَّل لأول مرة أيضًا -والسلسلة تمتلئ بلقطات غير مسبوقة- تستهدف العصابةُ نعامةً بالغة! وهي مغامرة مميتة تتطلب جهدًا فائقًا وحذرًا كبيرًا، فقد تنتهي بركلة قاتلة من النعامة لأحد الفهود، وقاتلة كذلك للعصابة الصغيرة التي تحتاج إلى جهود كل فرد فيها. لكن العصابة تربح رهانها -على الأقل هذه المرة- فتجني ثمار كفاحها الذكي من أجل غذاء أكثر وفرة.

أبطال المراوَغة

لكن هذه المعارك الأزلية بين الصياد والفريسة ليست محسومة دائمًا، حتى مع تحالفات عصابات الصيادين ضد فريسة واحدة. فالكاميرا تأخذنا بعد ذلك إلى بحار القارة القطبية الجنوبية، حيث ترقد الفقمات في أمان من الحيتان القاتلة فوق كتل الجليد الضخمة كالقلاع، لكن فقمة وحيدة تعبر المياه المفتوحة غير منتبهة إلى سرب الحيتان القاتلة الذي انطلق خلفها، وبالتفوق الكاسح للحيتان، لا تجد الفقمة سلاحًا سوى الحيلة، فتلجأ إلى كتلة جليدية ضئيلة عائمة لتبدأ لعبة اختباء مع مطارِديها، حيث تحاول إخفاء نفسها خلف هذه الكتلة، والدوران حولها كلما هاجمها حوت. وتستمر اللعبة حتى تزهد الحيتان في صيد هذه الفقمة المراوِغة التي تربح جائزة اللعبة في النهاية: حياتها.

سرب من الحيتان القاتلة يتعاون للإمساك بفقمة واحدة. تصوير: كالان كاربينتر. ويكيميديا. 

ولمراوغة الفرائس أمثلة أخرى أكثر إدهاشًا، فعندما يكون الصياد هو سمك المرلين الشراعي -وهو السبّاح الأسرع في العالم- تنعدم الفرص أمام الفريسة في السباحة هربًا، بالذات في المياه المفتوحة حيث لا مكان يصلح للاختباء أو المراوغة، فالهروب مستحيل تقريبًا إلا بالخروج من الماء نفسه والطيران في الهواء! وهو المشهد المذهل الذي تنقله لنا -بالحركة البطيئة- كاميرات فائقة الجودة والسرعة لتلك الأسماك العجيبة التي تستحق بكل جدارة اسم السمك الطيّار.

السمك الطيَّار وسباحة حرة في الهواء! تصوير: مايك برينس. ويكيميديا. 

مباريات نباتية

ومنافسات الغذاء هذه ليست قاصرة على مملكة الحيوان، فللنبات وسائل دفاعية عديدة تحميه من الحيوانات في معارك البقاء. ينقل لنا الفيلم مثالًا من البرازيل، حيث تتميز ثمار النخيل بصلابة شديدة في قشرتها التي لا يستطيع أي حيوان تحطيمها بأسنانه. غير أن قرود الكبوشي قد تعلَّمَت طريقة فريدة لفتح هذه الثمار القاسية والوصول إلى لُبِّها الطري الشهي؛ فهي تنتزع بأسنانها القشرة الخارجية الهشة، ثم تترك الثمرة تحت أشعة الشمس لأسبوع أو أكثر حتى تجف قشرتها الصلبة تمامًا، ثم تأخذها إلى «كسارة البندق»! نعم، فقرود الكبوشي تضع الثمار الجافة على «مائدة» حجرية صلبة، ثم تهوي عليها بحجر آخر أشد صلابة تُمسكه بالكفّين معا، فتتحطم القشرة الجافة «بين المطرقة والسندان»! هذه التقنية البديعة تتطلب مهارة فائقة، وخبرة طويلة، فقد يُنفق القرد الصغير ثماني سنوات من عمره في التدريب قبل أن يتقنها!

قرد الكبوشي الذي تعلَّم استخدام المطرقة والسندان. تصوير: تياجو فالوتيكو. ويكيميديا.

غير أن هناك نباتات لا تحتاج إلى أسلحة دفاع ضد الحيوانات، لأنها -ببساطة- تبادره بالهجوم! فنبات خنّاق الذباب هو أحد أنواع النباتات التي تتمرد على الترتيب التقليدي لسلسلة الغذاء، فتجعل من الحيوان غذاءً لها بدلًا من أن تكون هي غذاءً له. ويقترب بنا الفيلم من هذا النبات اللاحم وفخاخه التي تشبه فمًا بفكّين مُزوَّدَين بالأنياب، ينتظران أن تستجيب إحدى الحشرات إلى غواية رحيقهما المعسول، ليُطبقا عليها بلا فكاك.

أنياب «خنّاق الذباب» تخنق فريسته. تصوير: مالكولم باتيرسون. ويكيميديا.

مسائل عائلية

لكن الصراع من أجل الغذاء لا يمثل سوى حلقة في سلسلة كفاح الكائنات من أجل البقاء، فلا بد أن يأتي الوقت الذي تنادي فيه الغرائز بأداء أهم وظائف استمرار النوع: التزاوج. والتنافس على التزاوج قد يدفع الكائنات إلى أغرب الممارسات. فإلى أحراش ماليزيا تأخذنا الكاميرا لترصد السلوك العجيب الذي تلجأ إليه ذكور الذبابة مسوقة العينين لاجتذاب الإناث، فهي تخزِّن الهواء في فقاعاتٍ تضخّها عبر رأسها إلى عينيها، فتبدأ «ساقان» في الظهور والاستطالة، تحمل كلٌّ منهما إحدى العينين بعيدًا إلى جانب الرأس. وكلما زادت المسافة بين عينيّ الذكر، اقتربت المسافات بينه وبين المُعجبات!

ذبابة مسوقة العينين. تصوير: جوجو كروزادو. ويكيميديا.

وقد يكون التنافس على التزاوج شديد العنف والشراسة، كما يعرض لنا الفيلم -بحركة بطيئة كاشفة- تفاصيل القوة الغاشمة والعدائية المفرطة في صراع دامٍ بين اثنين من ذكور فرس النهر في موسم الجفاف. لكنه قد يكون أيضًا فائق الرقة والعذوبة والجمال، كرقصة الغزَل التي يشترك فيها ذكر وأنثى طيور الغطّاس ويستعدان لها بمحاكاة حركات بعضهما البعض، قبل أن تأخذهما حرارة اللقاء إلى ذروة الرقصة، فينطلقان متجاورَيْن ليجريا -كأعجوبتين- فوق سطح الماء!

زوجان من طيور الغطّاس في رقصة غزَل خلابة. المصدر: ويكيميديا.

أمّا الكفاح من أجل الحفاظ على النسل فيبلغ أحيانًا مبلغ التضحيات الأسطورية! مثلما نشاهد في الفيلم أنثى أخطبوط الباسيفيك العملاق وهي تحمل بيضها المخصب، وتدور بحثًا عن عرين يصلح مهدًا لصغارها، وضريحًا لها! فالأم -من أجل رعاية بيضها وحمايته- لا تغادر عرينها مطلقًا، حتى من أجل طلب الغذاء، فتتضور جوعًا حتى تهلك في صمتٍ وهي تدرك أنها تضحي بنفسها من أجل غاية أكبر.

وبعض التضحيات أشقُّ حتى من الموت، كما في حالة أنثى ضفدع الفراولة السام التي نراها تراقب كارثةَ جفافِ بركة الماء الصغيرة التي وَضعَت فيها صغارها، ثم تتحرك بسرعة -وبوحيٍ عجيب- فتأخذ أحد الصغار وتحمله على ظهرها، وتقصد إحدى الأشجار السامقة، وتبدأ رحلة تسلُّق ملحمية -لن نفهم مشقَّتها إلا إذا تخيلنا أُمًّا بشرية تتسلق ناطحة سحاب وهي تحمل صغيرها!- تصل في آخِرها إلى بضع قطرات من الماء صانتها عنايةٌ إلهية بين أوراق النبات لتكون مهدًا للصغير. غير أن هذا الصغير هو واحد فقط من ستة أشقاء تعولهم الأم، وهذا يعني أنها مُلزَمة بتكرار رحلتها هذه لخمس مرات أخرى! لكن وقت الراحة لم يحن بعد، فبِرَك المياه التي أَودعَت فيها الصغار ليس بها ما يصلح للغذاء، ولهذا لا تجد الأم سبيلًا إلى توفير الغذاء سوى أن تذهب إلى كل صغير فتضع له في بِركته بيضة غير مخصَّبة، ولأن بيضة واحدة لا تكفيه، تضطر الأم إلى مواصلة تلك الزيارات حتى تكبر الصغار، وبهذا تكون الأم -التي لا يتعدى طولها السنتيمترين- قد قطعَت في مُجمل رحلاتها ما يزيد عن ثمانمائة متر!

أُم وصغيران في سباقٍ للبقاء. تصوير: بافيل كيريلوف. ويكيميديا.

وقصص رعاية الأبناء في الطيور لا تقل روعة. فالبطاريق مشهورة بتناوب الوالدَيْن على رعاية صغارهما وتوفير الغذاء، لكن هذه الرعاية والحماية لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، فلا بد أن يأتي الوقت الذي يقف فيه الصغار بأنفسهم في مواجهة تحديات الحياة. وهكذا نرى -في ختام الحلقة- مشهدًا لتلك المواجهة التي تفرضها الحياة على صغار البطاريق، إذ تأتي اللحظة التي يلزم عليهم فيها توفير الغذاء لأنفسهم، فتتجه بهم غرائزهم إلى الشاطئ حيث يُلقون بأنفسهم في المياه المتجمدة حتى قبل أن يتقنوا السباحة. هذه المياه التي تطفو عليها كتل الجليد التي تمثل عائقًا منيعًا دون الوصول إلى المياه المفتوحة حيث الغذاء. يتقدم صغيرٌ شجاع ليحاول شَقَّ طريقه عبر الجليد العائم، ويراقبه الآخرون وهو يكافح بصعوبة بالغة، لكن مخلوقًا آخر يراقب الصغير من الأعماق. فقمة النمر التي تنقض على الصغير العاجز وتمزقه أمام عيون رفاقه، الذين لا يملكون ترف التردُّد في المغامرة بالتقدم وإلا هلكوا جوعًا، لكننا نتابع وصول المحظوظين منهم إلى فرص النجاة، بعد أن تعلموا جملةَ دروسٍ جديدة من تحديات الحياة.

فقمة النمر، وأنيابها القاتلة. المصدر: ويكيميديا.

وتستمر الحياة

بهذا تنتهي الحلقة الأولى، لكن قصص «الحياة» لا تنتهي. فالسلسلة تحكي لنا 130 حكاية في عشر حلقات يبلغ طول الحلقة منها ساعة تقريبًا، منها عشر دقائق في آخر كل حلقة تحت عنوان «الحياة في الموقع»، تحكي لنا قصة تصوير إحدى قصص الحلقة.

عشر حلقات تتناول كل واحدة منها عجائب عالَم من عوالم الكائنات: فبعد «تحديات الحياة» تتوالى حلقات «الزواحف والبرمائيات» و«الثدييات» و«الأسماك» و«الطيور» و«الحشرات» و«الصيادين والفرائس» و«مخلوقات الأعماق» و«النباتات» و«الرئيسيات».

عشر حلقات استغرق صنعها مجهود أربع سنوات، منها سنة كاملة في الأبحاث، وثلاث سنوات من التصوير في قارات العالم السبع، بواقع ثلاثة آلاف يوم من التصوير، بأحدث التقنيات وبكاميرات فائقة الجودة.

عشر حلقات تعاونت في إنتاجها «بي بي سي» مع ثلاث جهات أخرى، منها قناة «ديسكڤري» الأمريكية، بتكلفة غير مسبوقة، حتى وقت تنفيذ هذه الحلقات، قيل إنها وصلت إلى عشرة ملايين جنيه إسترليني، من أجل بلوغ أقصى إتقان ممكن؛ بدايةً من الجهد البحثي الخارق الذي بذله العديد من علماء الطبيعة للخروج بأفضل وأعجب القصص المرشحة للتصوير، ومرورًا بالموسيقى الساحرة التي عزفتها فرقة موسيقية خاصة اختارها الملحن البريطاني «چورچ فِنتون» وسمّاها «فرقة الحياة»، وانتهاءً بإنتاج عشر حلقات من سلسلة «داخل الحياة» المخصصة للأطفال، اختاروا لها عشرة من الصغار -في حدود الثامنة من العمر- لمصاحبة صناع الفيلم في عشر مهمات تصوير مختلفة، لينقلوا لغيرهم من الأطفال تفاصيل هذه التجارب المدهشة.

عشر حلقات لا تكفي لوصف عجائبها عشرات المقالات، فابحث عنها الآن وشاهِدها، فإن مَن شاهَدَها قد شاهَدَ الحياة في أعجب تجلياتها. وإذا أنهيتَ الحلقة الأخيرة فتذكَّر أن الحياة قد طالت بالسير ديڤيد حتى قدَّم حصيلة سبعة عقود من أجمل وأهم ما رصدَته عيون الكاميرات من العالَم الطبيعي، وأنها قد تطول بك أيضًا حتى تُشبع عينيك وعقلك وقلبك من تراث ديڤيد آتينبارا وأصحابه من مخلوقات الطبيعة، وتنهل مباشرةً من أعظم مصادر الإثارة والجمال المرئي والشغف العقلي، من المصدر الأعظم للكثير من الأشياء التي تجعل في الحياة ما يستحق الحياة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية