حين تفوق الواقع على «بلاك ميرور»

الخميس 06 تموز 2023
بلاك ميرور
مشهد من الجزء السادس من مسلسل «بلاك ميرور». المصدر: نتفلكس.

إن كانت هناك صفة يمكن وصف زماننا بها، فهي الخوف. ومسلسل المبدع البريطاني تشارلي بروكر «بلاك ميرور» على مدى خمسة أجزاء كان أفضل من يصفها، قبل أن يتفوق الواقع على تخيّله للمستقبل.

يصف عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان العلاقة بين الخوف والحداثة في عصر الأخيرة بأنها باتت علاقة أشبه بـ«توأم سيامي، من نوع لا يمكن لأي جرّاح، مهما كان بارعًا ومستعدًا جيدًا بأحدث التقنيات الجراحية، أن يفصل بينهما من دون تعريض بقاء الأخوين للخطر». وهذا ما حدث في الجزء السادس الصادر حديثًا من مسلسل «بلاك ميرور»، حيث عاد الخوف مرة أخرى ليطل على شاشة منصة «نيتفلكس» التي تطور عليها، لكن هذه المرة حاول بروكر فصل الخوف عن الحداثة، فعرّض المسلسل كله للخطر.

في مواسمه السابقة، كان بلاك ميرور في الأساس عرض خيالٍ علميٍ يستكشف مخاطر التكنولوجيا، وغالبًا ما يترك عند المشاهدين شعورًا قاتمًا ومقلقًا. واليوم، في الموسم السادس، ينحرف تشارلي بروكر عن التركيز الدؤوب على التكنولوجيا المستقبلية، ويقدّم حلقات تتضمن عناصر من تكنولوجيا جديدة، وأخرى قديمة. من خلال استكشاف العواقب غير المتوقعة والمزعجة في كثير من الأحيان التي تنشأ عن تقاطع المألوف والمتطور، يكسر العرض قواعده الخاصة ويوسع حدوده السردية. وكأن بروكر يحاول أن يخبرنا أنه لم يعد يعرف ما هي المرآة السوداء الآن؟

الموسم السادس من المسلسل ظهر متنوعًا، فبدلًا من دوران الحلقات حول مخاطر التكنولوجيا التي تعودنا عليها، والتي جرى تناولها في حلقتين، ظهر شكل جديد في الحلقات الثلاثة كانت فيه التكنولوجيا جزءًا من الحبكة  من غير أن تعتمد عليها الحبكة بشكل كلّي.

يركز بروكر في أول حلقتين، واللتين حملتا عنوان: «جوان الفظيعة» و«بحيرة لوك هنري»، على منصات الترفيه. في حلقة «جوان الفظيعة» يستكشف بروكر معنى أن يرى المرء حياته تنتقل من الحيز الشخصي إلى الشاشات، حيث الجميع. في قصة جوان، تجد البطلة حياتها وقد تحوّلت إلى مسلسل يبث على منصة تشبه «نيتفلكس» ومنذ تلك اللحظة ومع إقصائها مجتمعيًا بسبب المسلسل الذي يبالغ في تصوير جانبها السيء، تجد جوان نفسها مدفوعة للقيام بما هو أسوأ.

مرّ أكثر من 12 عامًا، منذ بدأ عرض مسلسل «المرآة السوداء» كشكل من أشكال الديستوبيا. استهدف بروكر من خلاله تسليط الضوء بشكل خاص على التكنولوجيا، وكيف تساهم في مراقبة البشر والتلاعب بهم، وتجريبهم.

تلقي الحلقة أيضًا، الضوء على هيمنة الذكاء الاصطناعي والخوارزميات على الفن السينمائي، وتظهر إحدى رسائل بروكر في أحد المشاهد الحوارية، حينما تُسأل مدير المنصة «لماذا تصنعون الشخصيات البغيضة؟ ولماذا كل هذا التشاؤم؟» لترد عليها قائلة «جربنا محتوى أكثر إيجابية، لكن جمهورنا لم يتقبله، وإننا حينما نركز على لحظات الضعف والأنانية والشر في حياتهم، فإن مخاوفهم تتأكد وتجعلهم في حالة من الذهول والرعب، وهو ما يحفز المشاهدات».

تتجلى مقولة كارل ماركس «إنّ الناس يصنعون التاريخ، ولكنهم يصنعونه في ظل ظروف ليست من اختيارهم» في حلقة «بحيرة لوك هنري»، حيث يلتقط بروكر بشكل فعال الطبيعة المعقدة للأفلام الوثائقية وهوس البشر بتتبع الجرائم الحقيقية. قد ندرك هذا الهوس سريعًا عقب جولة قصيرة على المنصة ذاتها التي ستشاهد المسلسل عليها.

تتتبّع الحلقة كلًا من بيا وديفيس، وهما زوجان يزوران «بحيرة لوك هنري» في إحدى البلدات الأسكتلندية لعمل فيلم وثائقي عن رجل يحمي البيض من الصيادين. بعد التعرف على التاريخ المحلي، تحثّ بيا ديفيس على صنع فيلم وثائقي عن القاتل المتسلسل إيان أدير بدلًا من ذلك. وما يكتشفونه أكثر فظاعة مما كان يتخيله أيّ شخص.

تمزج الحلقة بذكاء بين السخرية والرعب والمشاعر الإنسانية المتضاربة، والتكاليف الشخصية للبحث عن تلك القصص، في واحدة من أكثر حلقات المسلسل رعبًا وحزنًا. لكنني أظن أن النهاية لم ترتقِ لتضاهي مجمل أحداث القصة، فمنذ البداية جرى تصوير فردانية الشخصيات كلها وبحث كل منهم عن إشباع ملذاته ومصالحه الشخصية على حساب الجميع، لكن ورغم أنّ النهاية أتت لتكمل باقي الصورة إلا أنّ الفكرة  كانت تحتاج لتعميقها أكثر.

تلك المشكلة لم تجد لها مكانًا في حلقة «ما وراء البحر»، التي أراها أفضل حلقات الموسم السادس، وتتفق مع بنية المسلسل المعروفة، وهي سرد لقصص إنسانية عميقة في إطار من الخيال العلمي. تدور أحداث الحلقة عام 1969، وتتتبع كليف وديفيد، وهما رائدا فضاءٍ يقومان برحلة طويلة جدًا، يضطران معها لقضاء سنوات بمفردهما في الفضاء، بعيدًا عن عائلاتهما وعن الأرض، ولكن من خلال تكنولوجيا ما، يتمكنان من تحميل «وعيْهما» في نسخ مطابقة لجسديهما الأصليين، لتبقى هذه الأجساد على الأرض، وتتفاعل بشكل شبه طبيعي مع عائلاتهما، ويبدو كلّ شيء رائعًا.

وفي منتصف الحلقة تقع المأساة التي تفسد كل شيء، حينما تقرر طائفة معادية لهذه التكنولوجيا الهجوم على منزل أحد رائديْ الفضاء وقتل نسخته وكامل أفراد عائلته. تبدأ حالة الرائد المكلوم الذي فقد كل شيء بالتدهور، بينما يخشى الرائد الآخر على حياته في الفضاء. ولإنقاذ زميله من هذا الانحدار، يقترح كليف على ديفيد أن يستعير جسده، ويعود بوعيه إلى الأرض، في زيارات عاجلة، لكنه هنا يقع في حب زوجة زميله، ويؤدي كل هذا إلى نهاية قاسية جدًا.

حلقة أخرى يستعرض من خلالها بروكر روعة عمله، وهي «شيطان 79»، وبدلًا من وضع الأبطال في مستقبل بائس، أختار أن تجري الأحداث في عام 1979، على خلفية تصاعد السياسات العنصرية والفاشية في بريطانيا. تتتبع الحلقة عاملة البيع بالتجزئة نيدا، وعن طريق تعويذة تجذب مخلوقات شيطانية إلى الأرض، تدخل نيدا في صفقة مع شيطان حَسن الملبس يدعى جاب.

نيدا شخصية عادية جدًا تستيقظ وتذهب إلى العمل؛ تحاول فقط أن تتعايش، ليس لديها أي طموحات كبيرة في الحياة، وتحاول حرفيًا البقاء على قيد الحياة. لشخص مثلها العمل كمساعد مبيعات في متجر هو في الواقع نوع من صفقة كبيرة، في بلدة صغيرة جدًا في شمال إنجلترا. 

يمكن ملاحظة غياب التكنولوجيا المتطورة في الحلقة، لكن يمكن ببساطة الإحساس بوجودها، والنهاية لا يمكن وصفها إلّا أنها رائعة جدًا.

في النهاية نأتي للحلقة المخيبة لآمالي، والتي ربما تكون أول حلقة منذ بداية عرض المسلسل شعرت معها بإضاعة الوقت في مشاهدتها، وتتعلق هذه الحلقة بسعر المشاهير، وكيف يمكن للمرء أن يفقد روحه أمام مصوري «الباباراتزي». تلعب بطلة الحلقة دور واحدة من هؤلاء المصورين، لكنها تقرر ترك هذا العالم وراءها، بعد أن أفسدت حياة أحد المشاهير، لكن مع ضغوط الحياة يتم سحبها مرة أخرى من خلال دفع مبلغ كبير، للحصول على صورة لنجمة قامت بشيء فظيع.

شاهدت الحلقة أكثر من مرة، ربما لشعوري أن هنالك شيئًا ما يوصل الأحداث ببعض، إلا أن مع كل مرة شاهدتها فيها شعرت بخيبة أمل جديدة. وربما الحديث أكثر عن هذه الحلقة سيكون إفراطًا في التفكير، وفي منح معنى لشيء لا يعني شيئًا.

ماذا بعد أن يهزمك الواقع؟

مر أكثر من 12 عامًا، منذ بدأ عرض مسلسل «المرآة السوداء» كشكل من أشكال الديستوبيا. استهدف بروكر من خلاله تسليط الضوء بشكل خاص على التكنولوجيا، وكيف تساهم في مراقبة البشر والتلاعب بهم، وتجريبهم.

شرح بروكر الحوافز التي قادته إلى إنجاز المسلسل، بالقول إن هذا حصل مع بداية موجة جديدة عام 2010 من التفاؤل التقني والانبهار بجهاز «iPhone»، وانتشار العديد من التقنيات الذكية، التي أعادت تعريف مساحة عملنا والعادات والرغبات وأشكال الترفيه، وحتى حبنا وحياتنا الجنسية. وحين عَرض الموسمين الأولين، كان اهتمام بروكر بشكل خاص ينصب على المستجدات التي تتيحها التكنولوجيا وعواقبها على حياة الإنسان والمجتمعات البشرية. حققت الحلقات نجاحًا كبيرًا، لكن عندما انضمت «Netflix» لإنتاج المسلسل في 2014، اكتسب مكانة كبيرة وسط جمهور ضخم. توسع الجمهور، في المقام الأول في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن أيضًا في أجزاء أخرى من العالم؛ بفضل الإمكانات الإنتاجية الضخمة ومشاركة نجوم من الصف الأول، واستقبلت الجماهير الموسمين الثالث والرابع، بالإضافة إلى الفيلم التفاعلي من عام 2018، بشكل غير عادي، في ظل تطور المسلسل والحفاظ على الخط الذي يربط الأفكار ببعضها.

مع الاستخدام المكثف للتكنولوجيا في حياتنا، بات خيال بروكر «عقيمًا»، إذ تفوقت التكنولوجيا على ما يمكن لصانع محتوى ديستوبيّ مثله أن يتخيّله.

كتب بروكر في 2016، قائلًا إنه من الضروري أولًا أن نفهم كيف يتغير العالم بسرعة بسبب التكنولوجيا: «نحن نفعل بشكل روتيني أشياء بالكاد كانت منطقية بالنسبة لنا قبل خمس سنوات فقط، حتى أصبح من الصعب التفكير في وظيفة بشرية واحدة لم تغيرها التكنولوجيا بطريقة أو بأخرى، ربما بصرف النظر عن البكاء. هذا إلى حد كبير كل ما تبقى لدينا. بالأمس فقط قرأت قصة إخبارية عن لعبة فيديو جديدة تتواجد فوق المرحاض لمنع الناس من الشعور بالملل: اقرأ ذلك لنفسك واسأل عما إذا كنت تعيش في مجتمع عاقل».

ظهرت «الديستوبيا» التي أعلنها بروكر خلال العقد الماضي، على أنها وصف للحاضر وليس المستقبل القريب، بل يكاد يكون من المستحيل استكشاف التكنولوجيا الحديثة وتقدمها السريع والعواقب التي تجلبها على المجتمعات والمؤسسات والممارسات والعلاقات والإدراك الذاتي البشري بجدية. واقعيًا، تغيرت الحياة كثيرًا منذ عام 2016، أصبحنا محاطين عن طيب خاطر أو عن غير قصد بالشاشات من جميع الجوانب، وأصبحت كل خطوة وكل فعل، متاحة للأجهزة أو الشركات أو المتسللين والمجموعات الخفية التي يمكنها اللعب معنا وابتزازنا.

حين بث بروكر حلقته الأولى في موسمه الأول، عن قصة رئيس وزراء بريطاني يضطر إلى ممارسة الجنس مع خنزير أمام الكاميرات، ظهرت شهادة عامة بعد أربع سنوات، حول كيف اضطر ديفيد كاميرون (رئيس الوزراء في وقت بث الحلقة المذكورة) لعمل شيء شبيه مع خنزيرٍ خلال أيام دراسته. أكد بروكر بعد ذلك في كتاب «Inside the Black Mirror» أنه لم تكن لديه معلومات سابقة عن هذه الحكاية، ولكن «لسوء الحظ كان يلاحظ بشكل متزايد كيف تظهر أفكاره الغريبة، في الواقع».

هذه المشكلة التي تحدّث عنها بروكر، هي سرّ نجاح المسلسل، فمن منّا لا يرغب برؤية المستقبل، وإن كان سوداويًا. لكن هذه المنافسة، وسعيه للتفوق على الواقع دومًا، أثرت عليه وعلى المسلسل، ولذا في مقال كتبه عام 2019، بدا الكاتب على غير عادته في الكتابة عن الاختراعات التكنولوجية الحديثة، يائسًا، مهاجمًا الجميع، ساخرًا من البشرية التي صارت غير مبالية لما يحدث حولها. 

ويمكن فهم ما حصل لخيال بروكر، ولمسلسله بالتبعية، بالاعتماد على لحظة مؤسسة في حياتنا المعاصرة، وهي لحظة ظهور فيروس كورونا، حيث لم تعد الحياة بعد الوباء لما كانت عليه قبله. جزء مهم من هذا التحوّل الذي نشهده كل يوم، كان عن طريق الاستخدام المكثّف للتكنولوجيا والتطبيقات والواقع الافتراضي، والدوائر التلفزيونية المغلقة، وتكنولوجيا التعرف على الوجوه، والطائرات دون طيار، والأشعة الحرارية التي تستخدمها الشرطة، وجميع أشكال المراقبة.

ما حدث خلال وباء فيروس كورونا، سيذكر على أنه الأزمة الأولى التي استخدمت فيها الأدوات التي سهلتها الثورة التكنولوجية الرقمية الجديدة بشكل جماعي في السيطرة على البشر، وأدخلت أيضًا في النظام الاجتماعي والسياسي العام، مع احتمال كبير أن تصبح بيئة دائمة لحياتنا وقابلة للتطبيق عالميًا.

ومع هذا الاستخدام المكثف للتكنولوجيا في حياتنا، بات خيال بروكر «عقيمًا»، إذ تفوقت التكنولوجيا على ما يمكن لصانع محتوى ديستوبيّ مثله أن يتخيّله. وعلى عكس الحالة التي ظهر الموسم الخامس عليها، واختلف على جودتها البعض بالمقارنة بالمواسم السابقة، لكن رغم ذلك لم تخرج الحلقات عن النسق المنظم لفكر المسلسل، أمّا اليوم، فأظهر بروكر تحولًا بعيدًا عن الثيمة المؤسسة لمسلسله وكأن الشاشة السوداء لم تعد تعرف ما هي!

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية