برز في السنوات الأخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي عدد من الحسابات الرسمية لدول ووزارات خارجية من «العالم الأول» تنطق باللغة العربية، تتواصل بشكل مباشر مع الجمهور العربي، بلا وسطاء أو حرّاس البوابات كالإعلام التقليدي من صحف وقنوات تلفزيونية وإذاعية، حتى أصبحت هذه الحسابات مصادر مباشرة للمعلومات عن هذه الدول أحيانًا، ومثارًا للجدل أحيانًا أخرى. نحاول في هذا المقال تحليل هذا الخطاب والوقوع على أسبابه.
بريطانيا: الدبلوماسية العصرية المباشرة
ليس مستغربًا أن تكون بريطانيا إحدى أكثر الدول اهتمامًا بمخاطبة العالم العربي، فهي كانت تستعمر غالبية هذه الدول، ولا تزال تلعب دورًا فاعلًا في مجال السياسات العامة للمنطقة. فعلى مستوى التدخل العسكري كانت للجيش البريطاني ثاني أكبر مساهمة في غزو العراق عام 2003، بعد الجيش الأمريكي، فيما جرى التخطيط للتحالف الدولي ضد داعش في مدينة نيوبورت البريطانية في ويلز خلال اجتماع حلف الناتو، أما اقتصاديًا فإن إجمالي حجم التجارة بينها وبين دول مجلس التعاون الخليجي وحده بلغ نحو 33 مليار دولار في عام 2014.
لم تكتفِ الحكومة البريطانية بوجود حسابات ناطقة باللغة العربية لوزارة الخارجية والسفارات على مواقع التواصل، كالكثير من وزارات الخارجية الغربية وسفاراتها، إنما أوجدت منصبًا يدعى «المتحدث باسم الحكومة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، يشغله أشخاص يجيدون اللغة العربية، حيث تشغله الآن الدبلوماسية آليسون كينج، التي باشرت العمل في منصبها في كانون الثاني 2019، خلفًا للمتحدث السابق إيدوين صامويل، الذي لم يكن ينشط على تويتر فحسب، بل يلاحق متابعيه على التطبيقات التي تستخدمها الفئات العمرية الشابة أكثر من غيرها، مثل سنابتشات.
كينج، التي عملت في مناصب دبلوماسية متعددة، خدمت كمسؤولة شؤون سياسية في السفارة البريطانية بالخرطوم عام 2003، وهي تجيد العربية بطلاقة. وكان من أوائل ما نشرته بعد استلام منصبها تغريدات حول العلاقات الكويتية البريطانية التي بدأت منذ عام 1899، لكنها لم تتطرق إلى أسباب رغبة بريطانيا بالبدء بهذه العلاقة في حينها، وركّزت على نشر معلومات بسيطة وصور محصورة في مجالات الزيارات الرسمية بين أمراء الكويت وملكة بريطانيا.
أما المتحدث السابق إيدون صامويل، المحامي الذي بدأ مشواره مع اللغة العربية عام 1997 حين بدأ بتعلّمها في الجامعة الأردنية، فقد باشر عمله في السلك الدبلوماسي عام 2001، وتنقّل خلال عمله الدبلوماسي بين لندن وبرلين ودمشق والبرازيل والرياض، وله خبرات سابقة بالعمل في المجال المصرفي وفي مجال الإعلام، وفي المفوضية الأوروبية في بروكسل.
وكما تلمح تصريحات سابقة لإيدوين صامويل، فإن التواصل الدبلوماسي على مواقع التواصل جاء في سياق التسابق والمزاحمة على الوصول إلى الجمهور العربي ضمن مشهد الصراع الإقليمي الذي يظهر فيه أقطاب قوية مثل الروس الذين لديهم منصة روسا اليوم الإعلامية وتنظيم الدولة الإسلامية الذي استغل مواقع التواصل للترويج الإعلامي وبث رسائله بلغات مختلفة.
«الدبلوماسية المعاصرة» كما يسميها صامويل تظهر بشكل جلي في تغريدات الخارجية البريطانية وتغريدات حسابه، حيث يتطرق عبر منصات وسائل التواصل لقضايا في عمق العلاقات العربية البريطانية، ويروّج لمواقف بريطانيا السياسية وتطلعاتها في العالم العربي سواء فيما يتعلق بأزمة اليمن، وحل الدولتين، «الحرب على الإرهاب»، أو بالسعي إلى تحسين الفرص الاقتصادية البريطانية في المنطقة، ويركّز على الجوانب المشتركة من التطلعات مع التأكيد على الروابط التاريخية لبريطانيا مع العالم العربي.
ويظهر من الحساب العمل الدؤوب على إيصال رسالة حول الاحترام الكبير الذي تكنّه بريطانيا للهوية العربية بجوانبها اللغوية والدينية والتاريخية بمختلف مكوناتها وأطيافها، على الرغم من أن الرسائل تكون نخبوية في الغالب، وهي ميزة «الدبلوماسية العامة» التي تعمل على توجيه خطاب دون المستوى الحكومي، لكنّه ليس عامًّا جدًا بنفس الوقت، حيث يستهدف النخبة من المختصين والمثقفين والباحثين والصحفيين والطلبة، لكن استخدام وسائل التواصل يجعل انتشار الرسالة مفتوحًا لأي شخص موجود على تلك المنصات.
لكن صامويل وحكومته البريطانية عالقون في علاقتهم مع المنطقة في فترة الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث يشير في الفيديوهات إلى بعض الرحالة البريطانيين مثل ويلفريد ذيزيغر و«مبارك بن لندن»، وبعض المستشرقين الذين لعبوا دورًا في التحضير إلى وجه الشرق الأوسط الجديد وعلاقاتهم بالقبائل العربية في فترة السعي البريطاني لصد التوسع الألماني والوقف في وجه الدولة العثمانية عن طريق التحالف مع القبائل، مثل لورنس العرب وغيرترود بيل.
وباتخاذ مركز الإعلام والتواصل الإقليمي البريطاني من دبي موقعًا له، وبالنظر لطبيعة الكثير من الفيديوهات التي ينتجها صامويل عن الصحراء، يبدو أن بريطانيا أكثر رغبة بالتواصل مع الجمهور الخليجي تحديدًا، بالإضافة إلى أن التركيز على المجتمعات البدوية يبدو كمحاولة للخروج من الإطار الاستشراقي الذي يفضّل رؤية العرب كبدو لم يصلوا إلى التحضّر المنشود مثل بريطانيا.
السويد: «أنا لا أكذب ولكني أتجمل»
حسابات السويد، التي تدار عبر مؤسسة «المعهد السويدي» الحكومية، جاءت بعد دراسة أجريت في العالم العربي كشفت عن قلّة معرفة العرب بالسويد مقارنة بدول غربية أخرى، ليبدأ بعدها بسنوات قليلة المشروع الذي جذب الكثير من المتابعين منذ بدايته عام 2011، ويهدف بالأساس إلى زيادة الاهتمام وتعزيز الثقة بالسويد حول العالم، وإيصال صورة حول المجتمع السويدي المعاصر عبر نشر معلومات صحيحة وموثقة أو تصحيح معلومات موثقة عن السويد، حسبما قالت مديرة المشروع، ناديا الجوهري، في مقابلة معها.
الحسابات (..) تعمد إلى اتباع آليات تقود إلى مغالطات منطقية أو استنتاجات خاطئة بناءً على المعطيات التي تقدمها في المنشورات.
هذه المهمة يقوم بها ستة أشخاص بعضهم من السويديين الذين يجيدون العربية وبعضهم من العرب الذين وصلوا السويد بعد أن أمضوا جزءًا من حياتهم في الوطن العربي جميعهم دون سن الثلاثين، باستثناء الجوهري ذات اللكنة المصرية، والتي أمضت في السويد حتى الآن تسع سنوات. ولا يشترط أن يكون عضو الفريق سويدي الجنسية، لكن يجب أن يكون أمضى ثلاث سنوات في السويد ويجيد اللغة السويدية لضمان معرفته بالمجتمع السويدي، بحسب الجوهري.
لكن الحسابات تقوّض هدفها الأساسي عند التطبيق العملي، فهي تعمد إلى اتباع آليات تقود إلى مغالطات منطقية أو استنتاجات خاطئة بناءً على المعطيات التي تقدمها في المنشورات، حيث يتم تضخيم الإيجابيات لما يتجاوز الواقع أو إظهار نزر يسير جدًا من الحقيقة. فعلى سبيل المثال، منشورات حافلة فولفو الكهربائية التي يتم شحنها بأقل من ست دقائق تعطي انطباعًا أن الحافلة منتشرة بشكل كبير في السويد، إلا أن الحسابات لم تنشر عدد الحافلات التي دخلت نطاق الخدمة وأين، مع العلم أن الغالبية العظمى من سكان السويد لم يروا هذه الحافلة بعد.
بذات الآلية، تضلل المنشورات المتعلقة بحقوق الأطفال بالدراسة والبيئة الآمنة المتابعين، حيث تقودهم هذه المشورات إلى اعتقاد أن الأجواء التي يعيشها الأطفال بالسويد خالية تمامًا من المشاكل، رغم أن منظمة الطفولة العالمية اليونيسف انتقدت السويد أكثر من مرة في تقاريرها خلال السنوات الماضية.
وتعترف ناديا الجوهري بأن الحسابات غير متوازنة وتركز على الإيجابيات لكنها لا تعتبرها مضللة، مبررة ذلك بأن الحسابات ليست إخبارية وأن هناك مؤسسات أخرى تنشر أخبار السويد بصورتها الحقيقية، موضحة أن المقالات التي يتم كتابتها للموقع الإلكتروني أكثر توازنا من التغريدات والمنشورات بحكم وجود مساحة كتابة أكبر للنشر في الموقع مقارنة بمواقع التواصل.
لا يكتفي القائمون على الحساب بالميكافيلية التي تبرر استخدام هذه الوسائل للوصول هدفهم، لكنّهم يذهبون إلى خرق القانون الأساسي السويدي لحرية التعبير الذي ينص على أنه «يكفل لكل مواطن سويدي الحق بموجب هذا القانون الأساسي، في مقابل المؤسسات العامة، والتعبير علنًا عن أفكاره وآرائه ومشاعره، وبصفة عامة لتوصيل المعلومات عن أي موضوع من أي نوع»، حيث يحصّن مديرو الحساب أنفسهم بالشرط التالي للتعليقات على صفحتهم على فيسبوك :«يمنع كتابة الآراء التي تتناول إدارة الصفحة في حقل التعليقات، بل يتم إرسالها إلى محرري الصفحة المعنية في رسالة خاصة»، فيما تنفي الجوهري أن يكون هناك أي خرق مؤكدة أن سياسة التعليق تم عرضها على محامي المعهد قبل نشرها.
لا حاجة للبحث كثيرًا حول الجوانب المظلمة في السويد حتى تكتشف أن الحسابات تبالغ في تجميل السويد، حيث أنها ضمن أعلى خمس دول باستهلاك مضادات الاكتئاب، وأن البلد التي فيها أكثر من 12 نصبًا للمسدس المعقود الذي يرمز لمناهضة العنف ضمن قائمة أعلى 20 دولة تصدّر السلاح في العالم، و14% فقط من الجرائم اليومية «البسيطة» يتم حلها. كما لا يحدّث الحساب متابعيه عن مشاكل السويد المعاصرة مثل الاندماج وصعود اليمين وانتشار الجريمة المنظّمة.
اليابان: تحطيم الأسطورة
حساب «اليابان بالعربي» الذي بدأ نشاطه عام 2012 تديره مؤسسة Nippon Communications وهي مؤسسة مستقلّة غير حكومية، الأمر الذي يعطي الحساب مصداقية أعلى عن بقية الحسابات السابقة ويمنحه حريّة أكبر بطرح القضايا والمواضيع المتعلقة باليابان سلبًا أو إيجابًا بعيدًا عن التعقيدات الحكومية والبيروقراطية.
«كوكب اليابان» المصطلح الذي استهلّ فيه الإعلامي السعودي برنامجه خواطر 5 عام 2011، صبغ فيه اليابان بالبعد الأسطوري، بالتركيز على ما لديها من إيجابيات فقط، ليتبين لمتابعي حساب اليابان أن الأسطورة التي صنعها الشقيري هي أسطورة من ورق، وأن اليابان ما زالت في كوكب الأرض، تعاني من الكثير من المشاكل كما يعاني العالم.
على الرغم من أن فكرة مخاطبة اليابان للعرب بلغتهم بدأت كجزء من النشاط الدبلوماسي عن طريق مجلّة اليابان التي يتم توزيعها على سفارات اليابان في العالم العربي إلى الآن، إلا أن مواقع التواصل الاجتماعي منحت موقع Nippon الفرصة المباشرة للتواصل مع الجمهور العربي بالطريقة التي تتناسب مع العصر «من أجل تدعيم الروابط الإنسانية بين الشعوب وتعريف اليابان للعالم العربي بشكل صحيح وشفاف دون مبالغات، فهذا المشروع يهتم وبشكل فعال في تغيير الصورة النمطية عن اليابان لأنها تضع وتصنع حواجز نفسية وهمية بين اليابان والعالم»، وفقًا لرئيس تحرير موقع نيبون القائم على إدارة الحساب، حسن البوشي.
ووفقًا للبوشي، فإن الفريق القائم على الحساب والموقع يتكون من عرب ويابانيين يتحدثون العربية، ويصف تجربة العمل بأنها «مثيرة ورائعة للغاية»، كون الفريق يتمكن يوميًا من إنجاز أمرين معًا وهما «هدم أساطير وخرافات تم تلفيقها عن اليابان، ووضع حجرًا في بناء صورة اليابان الجديدة القريبة من الشعوب»، التي يهدف الحساب إلى ترسيخها عبر ما يُعرض من موضوعات ومقالات تتناول الشأن الياباني في كافة المجالات.
ويضيف البوشي في حديث معه: «تعتمد الرسائل التي يتم تمريرها عبر الحساب على احترام القارئ وعدم الاستخفاف به في زمن لم يعد تدقيق المعلومات بالأمر الصعب، كما أننا نود تشكيل الصورة الجديدة لليابان بعيدا عن كل ما تم اختلاقه من خرافات وأكاذيب باطلة، نحن نطمح إلى صورة حقيقية، صافية، شفافة، معتمدين على المعلومات والأرقام الدقيقة التي نملكها من كافة الجهات، مستعينين بمجموعة مميزة من الأكاديميين اليابانيين»، مع مراعاة أن الحساب يهدف للتواصل مع كافة فئات الناطقين بالعربية في العالم العربي والمعمورة بشكل عام.
لماذا يهتم «العالم الأول» بمخاطبتنا؟
على الرغم من أن العالم العربي غارق بأزماته ومشاكله القاسية، إلا أنه يبقى ذو أهمية جيوسياسية استراتيجية عالية، وأهمية اقتصادية قوية لاحتوائه على جزء كبير جدًا من احتياطي الطاقة الأحفورية في العالم، وبسبب الديانة الإسلامية التي باتت خطابات عديدة تحيل التّطرف إليها مع بروز الجهادية العالمية. لذلك، فإن الحفاظ على علاقات جيّدة مع الوطن العربي أمر بالغ الأهمية للدول الأخرى، ليس فقط لتطوير العلاقات الاقتصادية بين تلك البلدان والوطن العربي، إنما لمحاولة استيعاب ما يوصف بـ«العقل العربي»، والإسلامي تحديدًا، وهو ذات السبب الذي دفع هولندا التي استعمرت إندونيسيا، أكبر دولة إسلامية، على مدى ثلاثة قرون ونصف إلى افتتاح كرسي خاص بالدراسات العربية في جامعة لايدن عام 1613 وافتتاح أول قنصلية لها في جدّة 1869.
ويحمل عامل الثقة الكثير من الأهمية أيضًا، خصوصًا إن كانت تُبنى عبر سنوات من التواصل الإيجابي. وبما أن غالبية مستعملي مواقع التواصل الاجتماعي اليوم هم من الفئات العمرية الشابة (60% من مستخدمي سنابتشات هم بين 18 و34 عامًا، و32% من مستخدمي إنستغرام هم طلبة جامعيون)، فإن بناء الثقة معهم سوف يمهّد إلى بناء علاقات جيّدة على مستويات سياسية واقتصادية في السنوات المقبلة.
«كيف ستقوم بالتخطيط للاستثمار أو استكمال الدراسة أو الذهاب برحلة سياحية إلى بلاد لا تعرف عنها شيئًا؟»، تتساءل الجوهري، الأمر الذي يشرح رغبة السويد ومثلها بقية الدول التي تستهدف العالم العربي بالتواصل بلغته.
ومع استمرار نهج العولمة الاقتصادية في العالم، فإن الانفتاح على بقية المجتمعات أصبح ضرورة بالنسبة للدول الغربية التي تتبع هذا النهج، الأمر الذي يجعل التواصل مع العالم العربي ذو الناتج المحلي الإجمالي المقدّر بـ 2.6 ترليون دولار وما يزيد عن 360 مليون مواطن ومستهلك محتمل، أمرًا ضروريًا أيضًا.