تصوير آلاء السخني
لم تكن المفاجأة الأكبر في سجن الصحفي الأردني، تيسير النجار في دولة الإمارات العربية، على خلفية «منشورين» على فيسبوك، قيل إنهما تضمنا نقدًا سياسيًا للإمارات، في أن تحريك القضية ضده جاء في كانون الثاني (ديسمبر) 2015، في حين أن المنشورين المذكورين كُتبا، وفق ملف القضية، في العامين 2012 و2014. المفاجأة الحقيقية في قضية تيسير، هي أن سفره للعمل في الإمارات، قبل أكثر من سنتين، كان بدعوة من الحكومة الإماراتية نفسها، كما تؤكد زوجته، ماجدة الحوراني. وقد سافر إليها بعد حصوله على الموافقة الأمنية المطلوبة. وخلال الأشهر الثمانية التي فصلت بين وصوله هناك، ومنعه من السفر في المطار أثناء عودته إلى الأردن لقضاء إجازة اعتيادية مع أسرته، لم يكن هناك إطلاقًا، كما تؤكد الحوراني، ما يمكن أن يؤشر على أن الأحداث ستتابع بعدها، لتختم بمحاكمته، وصدور حكم قطعي، الشهر الماضي، بسجنه ثلاث سنوات، وغرامة 500 ألف درهم، أي ما يعادل 100 ألف دينار أردني تقريبًا.
الحوراني التي قابلتها «حبر» في منزلها في عمان، كانت عائدة للتو من وزارة الخارجية، حيث تابعت هناك آخر التطورات على قضية زوجها. فرغم صدور حكم قطعي، ما تزال تأمل في صدور عفو خاص، يعيد تيسير إليها، وإلى أبنائه الخمسة. كانت تتحدث والإنهاك باد بشدة عليها. فإضافة إلى معاناة سنة ونصف من الجهاد في متابعة القضية مع كل الجهات ذات العلاقة، في الأردن والإمارات، هناك أيضًا محاولة تدبر أمور عائلة غاب فجأة والدها. ووطأة الغياب لم تقتصر، كما تقول، على غياب تيسير، المعيل الوحيد لأسرة تسكن في شقة مستأجرة، ولديها خمسة أبناء، تتراوح أعمارهم بين 7 و21 سنة، جميعهم على مقاعد الدراسة. لقد كان تيسير، كما تلفت الحوراني، أبًا وزوجًا من النوع الحاضر في كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة في حياة عائلته، وهذا ما يجعل غيابه أكثر وضوحًا، وأكثر فداحة.
بعد سنة ونصف من بدء القصة ما تزال الحوارني تتساءل بحيرة عما حدث. فتيسير، الذي عمل صحفيًا في كل من جريدة «الدستور»، ووكالة الأنباء الأردنية «بترا»، تلقى في آذار (مارس) 2015، دعوة رسمية من الجهة المسؤولة عن مسابقة أمير الشعراء، كي يغطّي للأردن المسابقة التي تقام سنويًا في أبو ظبي. وقد ذهب فعلًا، كما تقول، لأسبوع، أنجز خلالها تغطية إعلامية للمسابقة، نُشرت وقتها في «بترا». وبعد شهر من عودته، حصل على عقد للعمل في مجموعة الجواء للثقافة والإعلام في أبوظبي، فقدم استقالته من «الدستور»، وأخذ إجازة من دون راتب من «بترا». ثم سافر هناك، حيث أمضى ثمانية أشهر، كان، كما تقول الحوراني سعيًدا جدًا فيها: «كان مبسوط بشغله، ومبسوط مع الناس اللي بيشتغل معهم (…) أحيانًا كان بيشكي الغربة لأنها تجربته الأولى فيها، بس كثير كان يحكي كيف حبّ البلد».
يوم 3 كانون الأول 2015، توجه تيسير إلى المطار عائدًا في إجازة إلى الأردن، عندما أُبلغ هناك أنه ممنوع من السفر، وطُلب إليه العودة إلى منزله، دون أن يُقال له السبب. تقول الحوراني إنه اتصل بها يومها يبلغها الخبر، وكان مستغربًا بشدة: «قلت له إتذكر يا تيسير، إنت عامل إشي غلط؟ فحكالي الغلط الوحيد اللي بيتذكر إنو عملو هو إنو قطع الشارع من مكان غير المخصص للمشاة، وإنهم غُرّموه 10 دراهم، ولسّة ما دفعها».
بعد عشرة أيام من إعادته من المطار، اختفى تيسير. انقطعت أخباره عن عائلته، وفقدوا كل وسائل الاتصال به، ما دفع منظمة هيومن رايتس ووتش، بعد شهرين من اختفائه، إلى إصدار بيان تطالب فيه بالكشف عن مكانه. ثم ظهر فجأة، بعد ثلاثة أشهر، عندما اتصل بها، كما تقول، وقال إن حقائبه أمامه جاهزة، وإنه أبلغ بأنه سيعود: «حكى المسألة كانت كلها مجرد سوء فهم وانتهت».
لكن، في الوقت الذي بدا فيه أن المشكلة حُلّت، عادت الأمور لتتأزم في تصعيد جديد مفاجئ؛ عندما نُقل إلى سجن الوثبة الصحراوي في الإمارات، ليُعلن للمرة الأولى سبب احتجازه: منشوران قيل إنه كتبهما على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك عامي 2012 و2014. ولتبدأ، من ثم، إجراءات محاكمته.
في المحاكمة، يقول المحامي الدكتور عادل عزام سقف الحيط، وهو المحامي الذي انتدبته نقابتا المحامين والصحفيين في الأردن، كي يقدّم الاستشارة للمحامي الإماراتي، علي العبادي، الذي تولى المرافعة في القضية (لأنه لا يحق لغير الإماراتيين الترافع أمام المحاكم الوطنية)، قدّمت النيابة العامة في الإمارات «بينة» إدانة جديدة، أضيفت إلى المنشورين، هي جزء من نص مكالمة هاتفية، ذُكِر أنها كانت بين تيسير وزوجته، وتضمنت كلامًا يمسّ دولة الإمارات، كما ورد في بينة النيابة. وقد صدر الحكم في آذار من العام الحالي، بالسجن ثلاث سنوات، وغرامة تعادل 100 ألف دينار أردني. ووفق سقف الحيط فقد: «طعن زميلنا المحامي الإماراتي بالحكم، لكن المحكمة أصدرت في حزيران (يونيو) الماضي، حكمًا قطعيًّا بتأييد الحكم الأول».
يلفت سقف الحيط إلى أنه كان هناك العديد من الملاحظات على الحكم الأول، وكان من المؤمل أن يتضمنّها الطعن في هذا الحكم. وقد ضُمّنت هذه الملاحظات كتابًا أرسل إلى المحامي في الإمارات.
الملاحظة الأساسية في هذا الكتاب، الذي ينوه سقف الحيط أنه كان حصيلة التنسيق بين رئيس لجنة حقوق الإنسان والحريات العامة في نقابة المحامين، وليد العدوان، ممثلًا لنقيب المحامين من جهة، ونقيب الصحفيين، راكان السعايدة، من جهة ثانية، تتعلق بأنه لم يكن هناك «ضبط» إلا لواحد من المنشورين موضوع التجريم، هو المؤرخ بشهر حزيران لعام 2012. أما المنشور الثاني (2014)، فهو ليس موجودًا في ملف القضية، وفق ما أفاد به المحامي الإماراتي.
وفق سقف الحيط «هناك قاعدة عامة في جميع الجرائم الإلكترونية، هي أنه «يجب أن يتضمن ملف الاتهام دليلًا رقميًا على هيئة ضبط مشاهدة أو ضبط تتبع مسار إلكتروني، وهذا غير موجود في هذه القضية في ما يتعلق المنشور الثاني، وهو موضوع الاتهام الأساسي». فما هو موجود هو اعتراف من تيسير يفيد بأنه كتبه. وكان هذا، من الواضح، بناءً على معلومات وصلت النيابة العامة. وهنا، يلفت سقف الحيط إلى ما يسمى في المحاكمات الجزائية بـ«الاعتراف الزائف»، الذي يكون نتيجة «ضغط نفسي»، فلا تكون إرادة المعترف حرة ولا يعتدّ باعترافه. وبحسبه، فإن التوقيف الطويل الذي كانت مدته ثلاثة أشهر، وإعادة الاستجوابات المضنية، قبل عرض النجار على محكمة أمن الدولة، هو بحد ذاته بيّنة على أنه كان تحت ضغط نفسي كبير.
حتى بالنسبة لمنشور 2012 المضبوط، فإن سقف الحيط يلفت إلى أن نشره كان سابقًا على تاريخ نفاذ القانون الذي قيل إنه انتهكه، وهو قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات الإماراتي. فبحسب ملف القضية، نُشر «البوست» في حزيران 2012، في حين أن القانون السابق نُشر في الجريدة الرسمية في الإمارات في 26 آب (أغسطس) 2012. وهذا، كما يقول يخالف مبدأً أساسيًا في كل القوانين الجزائية الوطنية والدولية، يقضي بعدم رجعية النص الجزائي، بمعنى أن النص القانوني لا يطبق بأثر رجعي على ما سبق من وقائع». يقول سقف الحيط إن الدفع الإماراتي هنا، كان أن استمرار نشر البوست إلى حين صدور القانون يعني أن الجريمة كانت مستمرة. لهذا أثير دفع مقابل بعدم اختصاص الإمارات بالنظر في القضية، كون فعل النشر لم يقع على أرضها. وهو أمر يلفت سقف الحيط إلى أن النيابة العامة الإماراتية ردّت عليه بأنه ما دام يمكن تصفح المنشور في الإمارات، فإن يُعدّ بحكم الواقع على أرضها.
لكن سقف الحيط يؤكد «عدم الاختصاص المكاني» للإمارات. ويقول إنه – مع مواصلة التذكير بأن منشور العام 2014 لا يوجد له ضبط في ملف القضية، وأنه لا يمكن للادعاء، بالتالي، إثبات أنه تمّ تصفّحه في الإمارات، إذا كان الادعاء لم يتصفّحه بنفسه – فإنه حتى مع التسليم بأنه قد كُتب فعلًا، فهو مع منشور 2012، يُصنّفان ضمن «جرائم الخطر لا جرائم الضرر».
ويشرح سقف الحيط أن الفرق بينهما أن جريمة الضرر هي الجريمة التي ينجم عنها نتيجة جرمية، مثل جرائم القتل والإيذاء مثلًا. أما جريمة الخطر، فهي جريمة لا ينجم عنها ضرر مادي ملموس، وإنما يقوم ركنها المادي على عنصر وحيد هو السلوك الجرمي نفسه. كما هو الحال في هذه القضية.
وينوّه سقف الحيط إلى أنه وفق اتفاقية بودابست للجرائم الإلكترونية والاتفاقيات المماثلة وقواعد العدالة، فإن الدولة المختصة بالتجريم هي الدولة التي وقعت فيها النتيجة الجرمية. ولأنه لا يوجد في هذه الحالة نتيجة جرمية، فإن الدولة الأولى بالاختصاص هي الدولة التي وقع فيها السلوك، وهي هنا الأردن، التي لم تجرّمه.
أما بالنسبة للمكالمة الهاتفية، التي يقول سقف الحيط إن تيسير اتُهم بأنه قال فيها كلامًا يمسّ بدولة الإمارات، وجاء اتهامه بموجب المادة 29 من القانون السابق الذكر، والتي تنص على معاقبة كل من «نشر معلومات أو أخبار أو بيانات أو إشاعات على موقع إلكتروني أو أي شبكة معلوماتية أو وسيلة تقنية معلومات بقصد السخرية أو الإضرار بسمعة أو هيبة أو مكانة الدولة (…)»، فإنه لا يمكن، بحسب سقف الحيط، الاحتجاج بالتجريم بموجب المادة السابقة. والأسباب بحسبه، تتمثل أولًا، في أن الوسيلة المستخدمة للاتصال كانت الهاتف، الذي يعدّ من وسائل الاتصالات، لا من «وسائل تقنية المعلومات» المذكورة في القانون. وثانيًا، بسبب انتفاء ركن «العلنية»، فالقانون نصّ على تجريم مَنْ «نشر» معلومات أو أخبار، في حين أن المكالمة كانت «خاصة» بين تيسير وزوجته. وهو لم يستخدم أي وسيلة إلكترونية لنشر محتواها، ما ينتفي معه توفر «القصد الجرمي المتجه للنشر والنيل من هيبة الدولة». وبغياب ركني العلنية والقصد، يؤكد سقف الحيط، لا تنهض المسؤولية الجزائية عن هذا الفعل.
يقول سقف الحيط، أن الملاحظات السابقة أُرسلت لمحامي القضية عبر البريد الإلكتروني، كما وجّهت نقابة الصحافيين كتابًا إلى سفارة الإمارات في الأردن، وفيه طلب لتسهيل مهمته (سقف الحيط) للسفر إلى الإمارات كي يتباحث مع وكيل تيسير هناك: «لم نتلق اتصالًا لاحقًا، وبعدها بعشرة أيام تقريبًا، صدر الحكم القطعي».
يؤكد سقف الحيط أن نقابة المحامين ما زالت تنسق مع نقابة الصحفيين لمتابعة القضية، على أمل الحصول على عفو يشمل الحكم و/أو إسقاط الغرامة، لأن عدم دفعها سيؤدي إلى تمديد العقوبة، وكذلك البحث في إمكانية النقض الخاص للحكم. «ثقتنا عالية جدًا بالقضاء الإماراتي، وأيضا بالأخوّة بين المحامين الأردنيين والإماراتيين، وبالجهود السابقة واللاحقة التي يمكن اتباعها من الأستاذ علي العبادي في هذه القضية».
وهذا ما يؤكد عليه أيضًا، منسق ملف الحريات في نقابة الصحفيين، خالد القضاة، الذي يقول إن النقابة لم تتوقف عن متابعة القضية منذ بدايتها. والآن بعد صدور الحكم القطعي، فإن ما بقي هو الأمل بعفو خاص: «نعتمد على خصوصية العلاقة التي تربط الأردن والإمارات على مستوى الشعب والقيادة. ونعتمد أيضًا على العلاقة الخاصة التي تربط مؤسسات المجتمع المدني في البلدين، وهذا ما يجعلنا نأمل في أن يكون هناك عفو».
في الوقت الحالي، تتواصل الحوراني وعائلتها مع تيسير مرتين في الأسبوع، من خلال مكالمتين مدة كل منهما 10 دقائق. وتقول إن ما يزيد من مرارة تجربة غيابه هو أنه بطبيعته كان «بيتوتي»، وعلاقته قوية جدًا بأبنائه، وهذا ما يجعلهم يفتقدونه أكثر. تقول إن الكثير من الأشياء «الحلوة» حدثت في غيابه، لكن الفرح كان دائمًا يأتي ممزوجًا بالغصة: «شذى كانت توجيهي لما انسجن. نجحت في التوجيهي، ونجحت في امتحان التوفل وهلأ بتدرس في الأكاديمية الملكية للطهي بالزبط زي ما كانت مخططة مع أبوها. قمر الزمان رح تقدم توجيهي السنة الجاي. وعون ترفّع للثامن، وإبراهيم للسابع، ويوسف للثاني، كلهم بتفوق».
يوسف بالتحديد، هو الأكثر معاناة، فهو لصغر سنه، كما تقول الحوراني، عاجز عن استيعاب ما يحدث. إنه يعرف أن والده في السجن، لكنه غير قادر على فهم السبب. وتضيف إن ما يعمّق معاناته هو أنه كان الأكثر قربًا من أبيه «كانوا على طول مع بعض، عشان هيك كل إشي بذكّره بأبوه. يعني لمّا يوكل، لمّا يشرب، لما يلعب، بيصير يحكي: شايفة؟ هيك بابا علمني أعمل، هيك بابا حكالي. (…) وقبل ما ينام كل يوم بتذكر كيف أبوه كان قبل النوم يخترع له قصص عن الرسومات اللي على بيجامته».
تقول الحوراني إن هناك شجرة كبيرة قريبة من مكان إقامتهم، اعتاد تيسير أن يجلس تحتها مع يوسف عندما كان يأخذه في للتنزه، ويروي له قصصًا «كل ما يوسف بمرّ على الشجرة بحضنها وببوسها وبحكي هاي الشجرة صديقة بابا اللي بتسبّح الله».
تيسير أيضًا، كما تقول الحوراني، كان زوجًا ورفيق درب نادر. تشير إلى الرسومات التي تغطي جدران غرفة الجلوس، وتروي كيف شجعها على ان تتبع شغفها بالفن التشكيلي. ودعمها لتدرسه ثلاث سنوات من خلال دورات في وزارة الثقافة. ثم استغرق معها، عامًا كاملًا في التحضير لمعرضها الأول قبل ثلاث سنوات. وقد فعل ذلك فقط لأنه حلمها، فشجعها على أن تتبعه، رغم أنه لا مقابل مادي مرجو لهذا النشاط، وأيضًا، رغم مسؤوليات العائلة الكبيرة: «لمّا بلّشت أدرس، كان يوسف كثير صغير، فكنت أتركه دايمًا مع تيسير. وهذا سر تعلّقه الكبير بأبوه».
تقول الحوراني إن تيسير أحب الإمارات فعلًا، لدرجة أنه أثناء إقامته فيها ألّف كتابًا، هو عبارة عن نصوص أدبية كتبها من وحي إقامته هناك. وقدّم الكتاب إلى دار نشر، ولم يكن قد تلقى الردّ بعد، عندما حدثت معه المشكلة. الكتاب بعنوان «الإمارات دولة السعادة مشكاة الإنسانية والتسامح». وقد نشرته بنفسها بعد سجنه، وكان من بين البينات التي قدمها المحامي لإثبات صفاء نيته تجاه البلد.
في الأثناء، أنشأ ناشطون عريضة تدعو السلطات الإماراتية إلى الإفراج عن النجار، وصل عدد الموقعين عليها إلى 1034 شخصًا. العريضة أنشئت يوم 28 حزيران (يونيو) الماضي، على موقع «نمضي» للعرائض الإلكترونية. والحوراني تؤكد «إحنا مش قاطعين الأمل، وبنتمنى يصدر عفو».