التعليم عن بعد: أعباء إضافية على الأمهات

الأحد 21 آذار 2021
تصميم رواند عيسى.

منذ كانت في العشرين من عمرها وهي تعمل في عدة مجالات، لكن هناء (31 عامًا) اضطرت، قبل وصول وباء كورونا إلى الأردن بفترة قليلة، إلى الاستقالة من عملها الأخير كمحاسبة في إحدى الشركات، بعد أن أمضت فيها حوالي خمس سنوات، وذلك بسبب طول ساعات العمل التي تمتد حتى الرابعة عصرًا، ما يمنعها من تلبية الاحتياجات الدراسية وقضاء الوقت الكافي مع طفليها، وأحدهما في الصف الثالث، فيما الآخر في الروضة.

قبل الجائحة، كانت هناء تفكّر بإكمال تعليمها أو الالتحاق بدورة لغة إنجليزية في حال لم تجد فرصة عمل بساعات دوامٍ أقل بحيث تكون مريحة لها ولأطفالها، خصوصًا أنه كان يتوفر لديها الوقت الكافي والإمكانيات المادية اللازمة لذلك. إلا أن الجائحة حالت دون تحقيق رغبتها، إذ يتواجد أطفالها وزوجها طوال الوقت في المنزل ما يستهلك وقتها، «مين بده يقعد معهم الصبح؟»، تقول هناء.

بعد إعلان الحكومة الحظر الشامل العام الماضي، والتحول إلى نظام التعليم عن بعد، صار الطلبة يتابعون تعليمهم عبر مشاهدة فيديوهات شرح الدروس عبر منصة «درسك»، وأخرى لحل الواجبات الأساسية للطلبة عمومًا، ثم يبدأ التواصل بين المعلمين والطلبة خلال ساعات محددة من أجل وضع الواجبات الجديدة، ثم تحميل إجابات الطلبة على المنصة.

وهكذا، انتقلت مهمة توفير البيئة الدراسية المناسبة من المدرسة إلى المنزل، وتولّت الأمهات هذه المهمة فحملن أعباءها النفسية والجسدية والاقتصادية والاجتماعية طوال ثلاثة فصول دراسية، لتضاف إلى تحديات أخرى فرضتها عليهنّ الجائحة.

التخلي عن الأهداف الشخصية من أجل الأطفال

أثرت الأعباء الجديدة على النساء العاملات، فاضطر بعضهنّ إلى التخلي عن وظائفهنّ من أجل مجالسة الأطفال في المنزل صباحًا، في ظلّ تعطيل المدارس ودور الحضانة، حيث انسحبت 39 ألف امرأة من سوق العمل دون البحث عن عمل جديد، بسبب صعوبة الموائمة بين الأعمال المنزلية والبقاء في سوق العمل، بحسب تصريحات المدير التنفيذي لجمعية معهد تضامن النساء الأردني منير ادعيبس لراديو البلد.

تقول هناء إن زوجها كان يساعدها قبل أن يغيّر مكان عمله قبل عامين، ويساعدها حاليًا في تدريس ابنهم الأصغر، لكن يوم الجمعة فقط، حيث لا يتيح له عمله وقتًا أكثر من ذلك، وقد انتقل عمله هو الآخر إلى المنزل، بعدما ظهرت حالات إصابة بفيروس كورونا في مكان عمله، حيث يعمل مدير شحن وتخليص في إحدى الشركات البحرية، وهو ما تقول هناء إنه يشكل عبئًا نفسيًا عليها، إذ أصبحت غايتها الأولى تهيئة المكان المناسب داخل المنزل للزوج والأطفال.

حوّلت هناء غرفة الضيوف إلى مكان عمل لزوجها، لكن الغرفة تعمّها الفوضى بسبب آلتي الطباعة والنسخ والملفات الورقية الكثيرة التي أحضرها زوجها إلى المنزل. فضلًا عن اتصالاته المستمرة طوال النهار مع الزبائن، والتي غالبًا ما يشوبها بعض الصراخ، ما يضطرها أحيانًا لتأجيل مكالمات مع والدتها للاطمئنان عليها، أو استقبال جارتها لقضاء بعض الوقت معها، أو مشاهدة مسلسل للترفيه عن نفسها، «بتربّط وحالتي النفسية بتكون صعبة (..) بظل يقول: وطي التلفزيون، اقعدوا، ما تصرخوش، ما تنطوش. خلص بقيّدك، أصلا بعرفش أنظف الدار وهو قاعد».

فرض التعليم عن بعدٍ عبئًا اقتصاديًا على بعض العائلات، يتمثل بضرورة توفير أجهزة إلكترونية ذكية تمكّن الطلبة من متابعة دروسهم على المنصة، خاصةً عندما يكون في العائلة أكثر من طالب.

تستيقظ هناء في السابعة والنصف صباحًا لتوقظ طفليها استعدادًا للدروس عن بعد التي تبدأ عند الثامنة، فتحضّر الأجهزة المطلوبة ليتواصل أبناؤها مع المعلمات، إذ تقدم مدْرستهم الحصص الدراسية بشكل مباشر، حيث مدة الحصة الواحدة 35 دقيقة، وبينها والحصة التي تليها ثلاث دقائق، ثم استراحة مدتها 45 دقيقة، تعدّ فيها هناء طعام الفطور لهم ولزوجها.

أثناء الحصص، تجلس إلى جانب ابنها الأصغر أمام الكاميرا لمتابعة دروسه، إذ يترك الدرس ويتبعها فورًا في حال غابت عنه، كما تساعده في إمساك القلم والتعلم على تهجئة الحروف وكتابتها، فيما يستجيب شقيقه مع المعلمة ويتابع دروسه وحده لأنه يعرف كيف يتعامل مع الكاميرا، ويطلب مساعدة أمه في حال حاجته لفهم شيء من الدرس.

مع بداية الفصل الدراسي الثاني من السنة الحالية، عاد التعليم الوجاهي لمدة ثلاثة أسابيع للطلبة في رياض الأطفال إلى الصف الثالث، لكن مع ازدياد حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد، قررت وزارة التعليم العودة إلى التعليم عن بعد. تقول هناء إن طفليها شعرا بالصدمة من القرار، وأن نفسية ابنها الأكبر ساءت، حيث يرفض التعليم عن بعدٍ، وصار أكثر عصبية وإلحاحًا على رؤية أصدقائه.

أثناء التعليم الوجاهي كانت هناء تلبي الحاجات الأساسية لطفليها بعد عودتهما من المدرسة، «بكون مستعدة إلهم، وطابخة ومنظفة ومخلصة أموري وهلا متفرغة إلهم يعني»، تقول هناء، مضيفة أنها كانت تنجز أعمال المنزل ثم تلبّي حاجاتها الخاصة مثل التسوق أو الذهاب إلى الطبيب، أو زيارة والدتها أو والدة زوجها. أما أكثر ما تشتاق له الآن فهو المشي على سطح المنزل تحت أشعة الشمس، وساعتا القيلولة الصباحية بعد إرسال الأطفال إلى المدرسة، ما يجدد نشاطها.

فرض التعليم عن بعدٍ عبئًا اقتصاديًا على بعض العائلات، يتمثل بضرورة توفير أجهزة إلكترونية ذكية تمكّن الطلبة من متابعة دروسهم على المنصة، خاصةً عندما يكون في العائلة أكثر من طالب، حيث تقدّم ما معدله ثلاث إلى خمس حصص لكل صف يوميًا، مدة الواحدة منها حوالي نصف ساعة.

ختام (44 عامًا) أمّ لسبعة أبناء وبناتٍ، اثنتان متزوجتان، وثالث يعمل سائقًا في شركة ويساهم في إعالة الأسرة، وما يزال الأربعة الصغار منهم طلبة في الصفوف الخامس، والثامن، والعاشر، والتوجيهي. تقول ختام إن هاتفها يتنقل بين الأربعة من أجل متابعة الدروس، لكن الأولوية لابنتها في التوجيهي: «أنا معاناتي أكثر إشي مع البنت التوجيهي، وأنا مش قدرتي أجيب أساتذة إلها أو معلمات. وهي بدها تاخد التلفون، تعتمد عليه اعتماد كلي».

تُقلق هذه الحال ختام وتشعرها بالتقصير تجاه أطفالها، خاصةً أنّ بناتها متفوقات دراسيًا، فيما لا تستطيع هي مساعدتهنّ باقتناء أجهزة إضافية، وما زالت تنتظر أن يتم توزيع الحواسيب المحمولة (اللابتوبات) التي أعلنت عنها وزارة التنمية الاجتماعية في آب الماضي للمنتفعين من صندوق المعونة الوطنية، متأملةً أن تحلّ هذه الأجهزة الأزمة التي تمرّ بها.

قبل حوالي عام ونصف، تعرض زوج ختام لإصابة في ظهره تسببت له بعجز جسدي بنسبة 85% لا يؤهله للعمل، فصارت ختام المعيلة لأسرتها من راتب شهري قدره 104 دنانير من صندوق المعونة، يضاف إلى ذلك ما يساهم ابنها الأكبر فيه، لكن دخلهم الشهري لا يكفي لتغطية احتياجاتهم، خصوصًا بعد ازدياد متطلبات الطعام والشراب، مع قضاء أبنائها كل وقتهم في المنزل، بعدما كانوا يقضون جزءًا منه في المدرسة، «هلا بتفرق، موجودين دايمًا، بده يزيد الأكل، بده يزيد الشرب، بده يزيد المصروف، بدها تزيد المتطلبات»، تقول ختام.

إضافة إلى العبء المادي، تشعر ختام بعبء نفسي تقول إنه تضاعف بعد التعليم عن بعد، فوجود أفراد الأسرة طوال الوقت في المنزل غيّر روتين أيامها وأصبح مرهقًا لها، فيما لا يستطيع زوجها مساعدتها في تربية الأطفال نظرًا لأنه يتناول أدوية نفسية تبقيه نائمًا أغلب الوقت، ويكون في مزاجٍ عكر عند استيقاظه. بينما كانت تستغل ذهاب أطفالها إلى المدرسة في القراءة أو الكتابة أو المشي في حديقة قريبة من بيتها، حيث توجد أيضًا مكتبة عامة، أما الآن «صار ملل، كل الأيام صارت واحد، مش عارفة من وين أبلشه ومن وين أنهيه».

الأم تحل محلّ المعلمة

مهمة إضافية ألقيت على كاهل الأمهات في التعليم عن بعد؛ شرح الدروس أو إعادة شرحها، وهو ما يحدث أغلب الأحيان بحسب شهادات أطفال وأمهات تواصلت «حبر» معهم، فكثير من الأطفال لا يستحسنون الشرح عبر المنصة فيدرسون من الكتب وحدهم، أو يستعينون أحيانًا بأمهاتهم وإخوتهم الكبار.

أمل* واحدة من هؤلاء الأمهات، وهي ربة منزل، حاصلة على الشهادة الثانوية، وأمّ لأربعة أطفال، ثلاثة منهم في الصفوف الأول والرابع والخامس، بالإضافة إلى طفلة عمرها سنة ونصف، وتتولى العناية بوالدة زوجها الثمانينية المقيمة معهم.

في البداية، واجهت أمل صعوبات في الولوج إلى منصة «درسك» والخروج منها، لكنها تجاوزت هذا الأمر لتجد نفسها أمام مشكلة أعقد، وهي تدريس أبنائها، إذ شكّل تغيير المناهج وأساليب التدريس أزمةً بالنسبة لها، خاصةً أن ابنتها في المرحلة التأسيسية في الصف الأول، وهو ما شكل عبئًا مضاعفًا نظرًا لحاجتها إلى اتباع طرق مختلفة عن تلك التي اتبعتها مع أبنائها الأكبر سنًا حين كان التعليم وجاهيًا، تقول: «يوم واحد تداوم فيه على المدرسة بختلف عن عشر حصص أنا أدرّسها».

لا تريد أمل لابنتها الصغيرة إلا أن تتعلم القراءة والكتابة، والجمع والطرح، فهي لا تريد إلزامها بما يفوق طاقتها في هذا العمر الصغير. وتقول إنها فقدت السيطرة كليًا على تعليم أبنائها، ما اضطرها في الشهر الثاني من الفصل الدراسي الأول الماضي للاستعانة بمعلمة خاصة تتقاضى 120 دينارًا شهريًا مقابل ثلاث ساعات أسبوعيًا؛ ساعة لكل طفل، وقد تبرعت والدة زوجها بالتكاليف الإضافية، وهو ما خفف من أعباء التدريس عليها.

لكن مما يزيد الأعباء على أمل، من ناحية أخرى، بقاؤها والأطفال طوال الوقت في المنزل، دون مشاركة زوجها في أعمال المنزل أو رعاية الأطفال، رغم طبيعة عمله التي كثيرًا ما تتيح له البقاء هو الآخر في المنزل، إذ يعمل في مجال تنجيد المفروشات في حال طلب الزبائن، ويقوم ببعض أعمال المياومة من حين لآخر، «هو محملني جْميلة على شغله اللي يا دوب بيشتغله».

مع تغير شكل التعليم، تحولت البيئة المنزلية في كثير من الأحيان إلى بيئة ضاغطة على الأمهات، وتحملن أعباء إضافية احتلت معظم أوقاتهنّ وتسببت لهنّ بالإرهاق نتيجة الجهد المبذول في تدريس أبنائهنّ، فضلًا عن القلق حيال المستوى التعليمي للأطفال، خصوصًا في المرحلة الأساسية. يحدث هذا في ظلّ غياب المساحات العامة أغلب أوقات السنة، بعد إغلاقها منعًا لانتقال العدوى، ما قلّص إلى حد بعيد أوقاتهنّ الخاصة الهادئة، تقول هناء: «إذا بدي أرفّه عن حالي بعمل كاسة كابتشينو وحبة شوكولاتة، بهرب فيها بمكان ما حدا يشوفني، بقعد شوي مع حالي، أصفن، أو بمسك التلفون بتصفّح بدون ما حدا يظل يقولي ماما ماما ماما، وما بلحّق طبعًا».

* اسم مستعار.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية