راشومون: الفيلم كتواريخ مُتعدّدة لحدثٍ واحد

الخميس 20 تموز 2017

لولا أنّه بالأبيض والأسود، وتحمل نسخته المتوفّرة على شكل قرصٍ مدمجٍ بصمات مرور الزمن، فسيصعب على المشاهد تصديق أن فيلم «راشومون» لأكيرا كوروساوا من إنتاج عام 1950، فهو -بكل عناصره- حداثيٌّ ومعاصر في آن، سواءً من حيث القصّة (المأخوذة عن قصّة قصيرة بعنوان «في أيكة» للكاتب ريونوسكي أكتاغاوا، والمنشورة عام 1922)، أو المُعالجة، أو تقنيّات التصوير الموظّفة بذكاء وجماليّة ذات وطأة تتناسب والموضوع.

فمن خلال ثلاثة أشخاص (حطّاب فقير، وكاهنٌ معدم، ورجلٌ من العامّة) يلتقون تحت بوّابة بلدةٍ مهدّمة (يحمل الفيلم اسمها) للاحتماء من المطر الشّديد، تنفتح أربعةُ رواياتٍ مُتناقضةٍ لحدثٍ واحد. والحدث بسيط: قاطع طريقٍ يُهاجم رجلًا من السّاموراي يصحب زوجته داخل غابة، بعد أن ثارت عليه غرائزه وهو يلمح طرفًا بان من وجه المرأة من تحت الغطاء الذي أزاحه النسيم. الواقعة تنتهي بموت السّاموراي، لكن الفيلم، بمعالجته لهذه الواقعة البسيطة، سيُدخلنا مباشرةً، ودون مُقدّمات، إلى مآسي الإنسان الأساسيّة، وتساؤلاته الوجوديّة الكبرى: مأساة الحبّ والموت والخيانة؛ مأساة الكذب على الآخرين وعلى النّفس، وتصديق تلك الأكاذيب؛ ومأساة الحياة في عالمٍ قاسٍ تجتاحه الجريمة والأمراض والفقر والغدر، عالم الرّيف اليابانيّ في فترة الإيدو (1603-1868) الذي يشبه كثيرًا العالم الذي أتى بعده (عالم الحربين العالميتين الأولى والثانية) وصولًا إلى عالمنا المعاصر.

الحكاية تتناسل إلى حكايات، والفيلم يتناسل داخليًا إلى عدّة أفلام: فشهادة قاطع الطريق ستتناقض مع شهادة المرأة عمّا حدث تناقضًا جذريًا، وكلا الشهادتين ستتناقضان مع شهادة السّاموراي القتيل الذي تحدّث من خلال وسيطة استحضرته للكلام، والشهادات الثلاثة ستتناقض مع رواية الحطّاب الجالس الذي يسرد القصة لرفيقيه انتظارًا لتوقّف المطر، لعلّ أحدًا منهم يصل إلى منطقٍ ما يفسّر هذه التناقضات، وكان الحطّاب (كما سيتضّح لاحقًا) قد شاهد الأمر كلّه دون أن يجرؤ على التدخّل، بحسب روايته.

الفيلم بهذا المعنى يُقدّم تطبيقات لفكرةٍ حديثةٍ مشتقّةٍ من فيزياء الكمّ، هي التواريخ المتعدّدة (Multiple Histories)، حيث لا يوجد تاريخ واحدٌ للحدث، بل كلّ يوجد له كلّ تاريخ ممكن، عددٌ لا نهائيّ من التواريخ الممكنة التي نشاهد نحن محصّلتها. ويطرح الفيلم أيضًا لا يقينية الحدث، وعدم إمكان الجزم بصحّة جزء منه دون أن تضعف الأجزاء الأخرى، وهو ما يعكس مبدًأ آخر من مبادئ فيزياء الكمّ: اللايقين (Uncertainty).

واللايقين يدفع إلى السؤال، والبحث، وعدم الرّكون إلى الكسل والتلقّي السلبيّ المُستسلم، والغوص في الأعماق، والبحث عن الدّلالات وتوليدها. الكثير من العمل الذهنيّ متروكٌ هنا للمتلقّي (المُراقِب بلغة الفيزياء). وكما أن المُراقِب عنصر أساسي في الحدث الفيزيائيّ الكميّ، يؤثّر فيه كما يتأثّر به، فالمُشاهد لفيلم كوروساوا هذا يلعب دورًا في ترجيح الخيارات، والتفكير بها، والسّؤال عن دوافع كل شخص لاختلاق القصّة التي قدّمها على أنها الحقيقة، خصوصًا وأن كل نسخة من نسخ القصّة (باستثناء الأخيرة: نُسخة المُراقِب) تُدين راويها باعتباره القاتل. هناك إخلاصٌ من جانب المخرج لأصل النصّ كقصّة قصيرة. فالقصّة القصيرة تنزع إلى التّكثيف، والإضمار، وتعدّد المستويات، والعمق (باعتبارها فنًّا عموديًّا)، وإشراك القارئ في صناعة النص من خلال ترك الكثير من العمل الذهنيّ له إذ عليه «تعبئة الفراغات» التي يسكت عنها القاصّ.

ثمة نصّ مثاليّ في تعدّديته عند رولان بارت، يصفه كالتالي: «الشّبكات [بين عناصر هذا النص] كثيرةٌ وتتفاعل، دون أن تتمكّن أي شبكة منها من تجاوز الأخريات. مثل هذا النصّ هو مجرّة من الدّوال، لا بُنية من المدلولات؛ لا بداية له، ويُمكن عكسه، ويمكننا الدّخول إليه من عدّة مداخل، لا يمكن الجزم أن أيًّا منها هو المدخل الرئيسيّ». يسمّي بارت مثل هذا النص «نصًّا كِتابيًّا» (writerly) فيما يسميّه أمبيرتو إيكو نصًّا «مفتوحًا» (open). معايير هذا النصّ تنطبق كثيرًا على فن القصّة، وتتحقّق في قصّة أكتاغاوا. إن كنّا نستطيع جرّ هاتين التسميتين من عالم النصوص إلى عالم السينما، فسيكون فيلم «راشومون» فيلمًا تنطبق عليه صفات الفيلم الكتابيّ المفتوح، فيلم لا يأخذ المشاهد من النقطة «أ» إلى النقطة «ي» عبر سلسلة من الممرّات الخطيّة الأحادية المحدّدة، بل يأخذه عبر سلسلة من الخيارات والمقترحات، وإن أضفنا أن هذه الخيارات والمقترحات تتعلّق بحدث واحد (لا مجموعة أحداث) فإن ذلك يبرز روعة وحرفيّة هذا الاتجاه الكتابيّ/السينمائيّ بشكل أكبر.

وكوروساوا ليس غريبًا عن مثل هذا النوع من الأفلام المُستلّة من روحيّة القصّة القصيرة، ففيلمه «أحلام» (1990) يتشكل من مجموعة من الأفلام القصيرة جدًا المأخوذة عن أحلام المخرج نفسه، ونجد فيها أيضًا مساحة من العملّ الذهنيّ المتروك للمشاهد، بدلًا من صيرورات أكثر الأفلام الروائية الطويلة التي تأخذ المُشاهد من يده وتوصله في أحسن الأحوال إلى نهاية مفتوحة.

ولا بدّ من الوقوف أمام فنيّات التصوير السينمائيّ في هذا الفيلم، فهناك العديد من التّنويعات في التقاط المشاهد، منها ملاحقة الشخصيّة والتقاط حركتها من عدّة زوايا: الأمام والخلف واليمين واليسار، والأعلى والأسفل أيضًا؛ أو حركة الكاميرا من مشهد يتضمّن عدة شخصيات ليضيق الكادر بشكلٍ انسيابيّ آخذًا المشاهد إلى وجه شخص واحد؛ أو تصوير شخصيّة تتحدّث إلى شخصيّة أخرى من خلف رأس الأخيرة؛ وغيرها من فنيّات التصوير المُبتكرة.

ومن اللقطات المميّزة في الفيلم: دوران الكاميرا حول الشجرة التي تحتلّ كلّ مساحة الشاشة ويستلقي تحتها قاطع الطريق مُدعيًا النوم، ويدور هو معها لتصير وإيّاه يمين الشاشة، فيما يمتد إلى يسارها عمق الطريق الذي يسير فيه -مُبتعِدَين عن المُشاهد- السّاموراي وزوجته، في إشارة ذكيّة إلى ما يجهلانه من مصير مستقبلّي، يتطلّع إليهما الآن من الخلف، من الماضي الذي تركاه قبل قليل، فيما يلعب العُمق المُظلم السائران إليه دورًا دلاليًا مُعزّزًا.

أما التركيب الجماليّ الأهم بصريًّا، فهو المحاكمة، التي تتشكلّ من عناصر مينيماليّة بالغة التقشّقف: سور في الخلف، وقاضٍ يجلس في مكان ما غير ظاهر أمام الشاشة، مكان المشاهد تمامًا، وكأن المخرج يريد أن يضع المشاهد مكان القاضي تمامًا، فيما يتبادل الرُّواة سرد الأحداث في الظلّ، مباشرة في مركز الشاشة أمام المُشاهد/القاضي الذي لا يُسمع له صوت أو تعليق، لكنّه سيحتارُ بالتّأكيد من تضارب الرّوايات وصعوبة الحكم على الشّخصيات، فيما يجلس في العمق إلى يمين الشاشة، في مساحة مضيئة بعد مساحة الظلّ، شهود اثنين على بعض عناصر الواقعة سيكونان هما رواتهما لرفيقهما الثالث تحت المطر.

ويتميّز من بين مشاهد الاستماع إلى الرّواة، مشهد استحضار القتيل ليروي الحادثة من خلال وسيطة تؤدي الدور بشكل يجمع الأداء الممسرح مع الرّقص المعاصر، ليضيف الأداء المسرحيّ الراقص والعناصر السينوغرافيّة فضاءً جديدة لهذا الفيلم المتعدّد الاشتغالات. والأداء المسرحيّ حاضرٌ في هذا الفيلم بشكلٍ واضح، من حيث التعامل مع اللقطات الثابتة باعتبارها فضاءً مسرحيًا لحركة المُمثّلين، أو لجهة أسلوب التّمثيل الذي يعتمد إبراز حركات الوجه والانفعالات والتغيّر في نبرة الصوت وشدّته، ونظرة العين، دون أن تمثّل هذه الطريقة –كما قد يُتوقّع- مبالغةً في الأداء، بل تشكّل العناصر المسرحيّة المختلفة الموظّفة في هذا الفيلم منطبقة تمامًا على القصّة والأسلوب والمعالجة وتقنيّات التصوير المُستخدمة. ثمّة اشتباك بين الشكل والموضوع تميّز الأعمال الفنيّة الرّفيعة، حيث الشّكل يعبّر عن الموضوع، والموضوع يطلب شكلًا بعينه لا يظهر بكامل ألقه فنيًّا إلا به، وهذا يتحقّق في هذا الفيلم.

في لحظات الفيلم الأخيرة، تقول إحدى الشخصيات المُنتظرة تحت المطر، بين الشّهادات المُتضاربة ومآلات القصّة التي تعقّدت: «أنا لا أفهم حتى نفسي..» وعدم الفهم هذا يتفاقم باكتشاف الاثنين أن ثالثهم قد شاهد الجريمة، ولم يُخبر القاضي، فيما تتناقض روايته أيضًا مع روايات الثلاثة الذين كانوا داخل الحدث نفسه. يُخفي الحطّاب أمرًا عن القاضي، يكذب عليه بهذا المعنى، ويظهر هذا الاعتراف ضمنيًّا، لا صراحةً، عندما يسرق رجل العامّة المتشرّد لباس كيمونو يلفّ طفلًا متروكًا بين ركام البوابة يجدونه آخر الفيلم. يتّهم الحطّاب رجل العامّة باللصوصيّة، فيردّ الأخير بأنه ليس أفضل حالًا من الأوّل، وهو الكاذب واللصّ أيضًا، ويلطمه على وجهه، دون ردّ.

ليس ثمّة حقيقة واحدة حتى لحدثٍ بسيط، وليس ثمّة نهاية لتعقيدات ودوافع وعبثيّة السلوك الإنساني، هذا ما نجح كوروساوا بنقله إلى الشاشة، وبامتياز.

*تنشر هذه المقالة بالتزامن مع مجلة «السينمائيّ»، وهي مجلة سينمائيّة ورقيّة تصدر عن نادي الجسرة الثقافيّ في قطر، وتوزّع عربيًّا بشكل مجانيّ كبادرة لدعم الثّقافة السينمائيّة في العالم العربيّ.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية