رُحّلٌ رُبطوا بأعمدة: حياة حراس أبراج الاتصالات في الرويشد

جاسم الغياث في بيت الشعر الذي يسكنه وعائلته قرب برج اتصالات في الرويشد. تصوير محمد زكريا.

رُحّلٌ رُبطوا بأعمدة: حياة حراس أبراج الاتصالات في الرويشد

الأحد 24 آذار 2019

تتناثر على جانبي الطريق الصحراوي، في الاتجاه إلى الرويشد، أبراج شركات الاتصالات العاملة في الأردن. وينتبه من يقطع الطريق الجرداء والمهجورة في البادية الشمالية، أن هناك، في محيط كل برج تقريبًا، بقعة فيها مظاهر حياة: بيت شعر، حبال غسيل، حظيرة ماعز، أطفال يلعبون، ونساء ورجال منهمكون في مهام يومية. هؤلاء هم حراس هذه الأبراج من أبناء المنطقة، وظفتهم شركات أمن خاصة، تعاقدت معها شركات الاتصالات الثلاث العاملة في المملكة، لحماية أبراجها من أعمال التخريب، وسرقات الكوابل النحاسية. فحملوا أسرهم إلى قلب الصحراء، وأقاموا فيها شبه منعزلين عن العالم، مقابل راتب شهري يتراوح بين 200 و250 دينارًا.

علي الغياث (30 سنة) هو أحد هؤلاء. حصل على وظيفته قبل أربع سنوات، عندما وصله عن طريق معارف أن حارس هذا البرج ينوي ترك العمل، وهو يبحث عمّن يحلّ محله. فقبِل مباشرةً، وجاء إلى البرج الذي يقع في جزء من الصحراء تغطيه الصخور البركانية السوداء، ونصب خيمة عاش فيها مع والدته الخمسينية أم عبد الله، وأخته فاطمة (18 سنة)، وأخيه حامد (11 سنة).

يتلقى علي، الذي ترك المدرسة في الصف الثالث، 250 دينارًا راتبًا شهريًا، من دون ضمان اجتماعي، ولا إجازات. ولأن تعاقده مع الشركة نصّ على أنه سيتحمل كلفة أي سرقة يتعرض لها البرج، فهو مطالب بتوفير الحماية له على مدار اليوم. المسؤولية ثقيلة، «والراتب ما يكفّي»، يقول علي، الذي يؤكد أنه، رغم ذلك، لا يفكر بترك المكان. فعلي الذي ينحدر والده من أصول سورية، ينتمي إلى فئة غير محددي الجنسية، أو من يعرفون بالبدون. وليس هناك الكثير من فرص العمل في الرويشد، لشاب من دون جنسية، لم يكمل تعليمه الابتدائي.

علي الغيّاث وأمام مكان سكنه مع عائلته والبرج الذي يحرسه. 

يقع لواء الرويشد، الذي يتبع إداريًا لمحافظة المفرق، في أقصى شرق المملكة، على بعد 270 كم عن العاصمة عمان، ويمتد على مساحة 22 ألف كم تقريبًا. وتقدر دائرة الإحصاءات العامة عدد سكانه لنهاية العام 2018 بثمانية آلاف نسمة تقريبًا، يتوزعون على تسعة تجمعات سكانية، هي: الرويشد، ومنشية الغياث، وصالحية النعيم، والروضة، والريشة الغربية، والرقبان، والإثنى، والفيضة، والريشة الشرقية، والكرامة، والمشاقيق، وروضة الرويشد. ويحتل اللواء المرتبة الثانية بين الألوية الأشد فقرًا، استنادًا لآخر أرقام رسمية أعلن عنها العام 2010.[1] إذ بلغت نسبة الفقراء من سكانه 69.6%. وظل اللواء، ابتداءً من أول مسح للفقر أجرى العام 2002، يتناوب المركزين الأول والثاني، مع وادي عربة، في محافظة العقبة.

للرويشد حدود مع ثلاث دول مجاورة، هي السعودية والعراق وسوريا. وكانت المنطقة تاريخيًا، قبل ترسيم الحدود بين هذه الدول، مرعى مفتوحًا لقبائل المنطقة، كما يقول المدير السابق لدائرة الأراضي والمساحة، المهندس نضال السقرات. وبعد ترسيم الحدود، بقيت القبائل تجتاز الحدود بحثًا عن الماء والعشب، لكن ضمن اتفاقيات ثنائية بين هذه الدول، نظّمت، كما يقول، نقاط العبور وزمنه، وآليات دخول وخروج هذه القبائل ومواشيهم ومتاعهم. ويمكن العثور على النصوص التي تنظم عبور الرعاة الحدود في اتفاقيات يعود بعضها إلى زمن الإمارة، ويمتد بعضها إلى منتصف الثمانينيات.[2]

بهذه الطريقة، عبرَ والد علي، الذي كان راعي أغنام، من سوريا إلى الأردن، وقرر عام 1978 الاستقرار فيه، فتزوج وأنجب أولاده وبناته في الصحراء، وجميعهم الآن لا يحملون الجنسية، رغم أن والده حاول منذ أكثر من 20 سنة الحصول عليها، كما يقول علي. والآن، فإن الورقة الثبوتية الوحيدة التي يمتلكها علي هي شهادة ميلاد، يستلم بموجبها الراتب الذي ترسله الشركة إليه في حوالة إلى محل صرافة في الرويشد.

هذه هي الوظيفة الأولى الثابتة لعلي، فعندما خرج من المدرسة، بدأ يساعد والده في الرعي، وهي مهنة يقول إنه كرهها، ولم يطوّر فيها أي مهارات. لهذا عندما بلغ العشرين من عمره، قال له والده: «روح دبّر حالك». فانتقل للعمل راعيًا عند الناس، حيث كان يُكلّف بقطعان أغنام، وصل عدد بعضها إلى 500 رأس. وكان مطلوبا منه أن يخرج بها لترعى في عمق الصحراء: «ما كنت أعرف أمَرّح بالخلا برّة. بالخلا كنت أخاف؛ وحوش وضباع. وكنت صغير (…) صرت أروح عند هذا شهر، يقولي روح سراحتك مهي زينة». لهذا، ترك الرعي واتجه للعمل في المياومة في مزارع البندورة والدراق ضمن محافظة المفرق. ثم لفترة من الزمن: «اشتغلت، حيشاك، بالزبل تبع الدجاج. كانوا يجيبونه من مزارع الدجاج من المفرق بشوالات ونفرده على البندورة».

في هذه المزارع كانت تعمل أيضًا والدته التي تقول إنها سعيدة بالانتقال إلى هذا المكان: «البندورة نكّلتنا، عفناها، ملينا، ظهورنا صارت توجعنا». ولتشرح عن تلك الأيام، تحني أم عبد الله ظهرها، وتلمس يداها الأرض: «وِدّك تظلين هيك». ثم تستدرك: «بس بعدين الله جابلنا حراسة هالبرج، وطلعنا جاي على هالحجر الأسود».

البرج الذي يحرسه علي الغيّاث وعائلته.

في الموقع، كما في باقي مواقع الأبراج الأخرى، هناك كرفان توفره شركات الاتصالات ليكون سكنًا للحراس، لكن الكرفان الحديدي، الذي لا تتجاوز مساحته 3×3 مترًا، بارد جدًا في الشتاء، وحار جدًا في الصيف، كما يقول علي، لهذا تستخدمه العائلة مخزنًا لشوالات علف بضع رؤوس من الماعز، اقتنوها لتساعد في المعيشة. في حين تبقى العائلة في الخيمة التي يشغّلون فيها في برد الصحراء القارص هذه الأيام، مدفأة حطب. ويقول علي إنهم يلجأون إلى الكرفان، فقط عندما تعجز الخيمة، المبطنة بشوادر بلاستيكية، عن مقاومة الأمطار والرياح القوية: «مرة إجى عَجّ [عاصفة ترابية] ووقع البيت، فقعدنا فيه لين راح العَجّ».

الخيمة التي تستخدمها عائلة علي الغياث حظيرةً للماعز.

للطبخ تستخدم العائلة الغاز، ولتوفيره، تستعين بوقود من الحطب وروث الماعز. تقول أم عبد الله: «نلقّط من حوالينا حطب. ونلمّ من تحت الحلال ونولّع». وبالنسبة للمياه، تأتي بها إلى العائلة صهاريج تسحب من مياه الحفائر المنتشر في الصحراء، التي حفرتها وزارة الزراعة لتمتلئ خلال الشتاء بمياه المطر، ويستخدمها رعاة المنطقة لسقاية قطعانهم. هذه الحفائر هي واحدة من مصادر المياه التي يعتمد عليها سكان المنطقة لسد جزء من احتياجاتهم المائية، ويبلغ عددها بحسب مدير مديرية الحصاد المائي في وزارة الزراعة، المهندس أيمن الحديد 52 موقعًا، صُمّمت لتسع 3.5 مليون متر مكعب. يضاف إليها ست سدود ترابية، تسع 68 مليون متر مكعب. وهناك أيضًا 16 بئرًا ارتوازيًا، لكن ثماني منها معطلة، وفق الحديد، الذي يضيف أن في المنطقة أيضًا بئران مملوكان لأشخاص. أقرب هذه الآبار إلى عائلة علي هو بئر الغصين. تقول أم عبدالله: «نجيب منه يوم يشغلونه، بس ميته مالحة ما تنشرب. نجيب منه للحلال والغسيل والجلي». لهذا تشتري العائلة مياه الشرب من محل للمياه المفلترة في الرويشد، حيث يركب علي الباص إذا صادف مروره، لكنه في الغالب يشير للسيارات العابرة.

أما الكهرباء، فهناك مولد في المكان، تابع لشركة الاتصالات، ويسمح لهم بتشغيله، كما يقول علي، بضع ساعات خلال اليوم، اختاروا أن تكون خلال ساعات الليل، من أجل الإنارة. وهذا يعني أنه لا يمكنهم تشغيل ثلاجة، وهي مشكلة كبيرة في صيف الصحراء: «مي مسقعة ما في. بالقيظ يذبحنا الحَمّ». لكن أم عبدالله تتحايل، فتلف الثلج الذي يأتون به من الرويشد «في قلب اللُّحف».

بيت الشعر الذي تسكنه عائلة علي الغيّاث.

لدى أم عبد الله التي تزوج زوجها من ثانية، ويقيم مع عائلته الأخرى في الرمثا، أربعة أبناء وبنتين، تزوج منهم ثلاثة، وتعيش هي مع الباقين؛ علي وفاطمة وحامد. فاطمة لم تدخل مدرسة في حياتها، لأن العائلة عاشت دائما في أماكن بعيدة عن المدارس. لكنها تقول إنها تعلمت تمييز الحروف من كتب أخيها حامد، ومن خلال التعامل مع هاتف والدتها. وهي تميز، إلى حد ما، الترجمة على المسلسلات الأجنبية في التلفزيون الذي يُشغل في الليل. ورغم أنها، في سن الزواج، وفق ما هو متعارف عليه في محيطها الاجتماعي، فإنها تقول إنها تنتظر أن يتزوج أخوها، لتحلّ زوجته محلها في خدمة العائلة: «الحلالات أنا بعلفهن؛ أمي ما فيها [حيل]. غير أنا بطعميهن. والجلي والطبخ وشغل البيت».

يبدو الصغير حامد أكثر حظًا، فهو يدرس في مدرسة في منشية الغياث، ويقيم مع أخته المتزوجة هناك. ويأتي إلى خيمة العائلة عند البرج أيام العطل. لكنه يقول إنه يكره المدرسة بشدة، لأن المعلمين يضربون التلاميذ بشكل دائم. تقول أمه إن العائلة ترغمه على البقاء في المدرسة. لكن حامد يؤكد أنه عازم بقوة على تركها. وعمّا سيفعله بعد ذلك، يقول إنه سينتظر أن يكبر، ثم: «رح أصير أسرح مع الحلال. (…) أروح أدبّر غنم، وأصير أسرح معهن عند ناس».

وقت اللقاء، كان هناك أمام الخيمة، قطعة من شادر بلاستيكي، فُرِدَت عليها أعشاب برية للتجفيف. قالت فاطمة إنهم جمعوها من المحيط لإطعام الماعز، التي يأخذونها للرعي بضع ساعات كل يوم، غير بعيد عن المكان. ودائمًا تحرص العائلة في تحركات أفرادها على أن يبقى أحد عند البرج: «هاذي مسؤولية. ما نقدر نضيّع [نترك] البرج». لقد أخبرنا جميع من قابلناهم أن واحدًا على الأقل من العائلة يجب أن يبقى في المكان، حتى بعد انتهاء ساعات الدوام الرسمية، كما يحددها قانون العمل. وهذا يجعل مهمة حراسة الأبراج عمليًا، مهمة عائلية، يتكاتف جميع أفراد الأسرة لتنفيذها. ما يجعل بالتالي حركتهم محدودة. فعائلة علي، على سبيل المثال، يزورون أقاربهم في منشية الغياث، كما تقول أم عبدالله «كل شهرين أو ثلاثة». وحتى مواعيد الطبيب، تقول عنها أم عبد الله: «معي وجع بذاني. أروح أنفضهن، وأجيب قطرة (…) لما ودي أروح المفرق، أتعلّق [أركب] الباص، ويظلوا الأولاد هان».

حامد، الأخ الأصغر لعلي الغيّاث.

ما هو مهم، كما يقول من قابلناهم، هو أن يكون هناك «زول» في المكان، بمعنى أن يكون هناك أي شخص، وهذا ما جعل رجلًا في عمْر جاسم الغياث (89 سنة) يحصل على هذه الوظيفة. يعمل جاسم حارسًا منذ سبع سنوات، أي منذ أن كان في الثانية والثمانين من عمره. ولديه عشرة أبناء، تزوج منهم سبعة، ويعيش معه وزوجته ابنتهما زينب (29 سنة) مع ابنتها حلا (ثلاث سنوات)، ومحمد (26 سنة). وهناك شفاء (18 سنة) التي تدرس الثانوية العامة في مدرسة في الرويشد، وتقيم عند أخيها في صالحية النعيم، التي تبعد عن البرج 33 كم، وتأتي فقط أيام العطل.

في الموقع الذي يحرس فيه جاسم، هناك برجان، البرج الذي تعاقد على حراسته، وآخرٌ يتبع شركة اتصالات أخرى، وليس عليه حارس، لكن قربه منهم جعلهم عمليًا حراسا له، من دون مقابل. يروي أنه قبل سنة، حضرت سيارة ديانا تحمل ثلاثة رجال عرّفوا عن أنفسهم بأنهم مهندسون من شركة الاتصالات، جاؤوا ليصلحوا عطلًا في البرج، وبدؤوا بقطع الكوابل ووضعها في السيارة. تقول زينب إن الشكوك راودتهم بشأن لوحة أرقام السيارة، وأيضًا لأن أحدًا من شركة الحماية لم يتصل مسبقًا ليبلغ بقدوم فنيين: «اتصلنا بأهل العمود [البرج] بعمان، قالوا اقظبوهم وسلموهم الشرطة». فأبلغوا الشرطة التي قبضت عليهم قرب الرويشد. تقول زينب إن شركة الاتصالات سألتهم عما يريدونه مكافأة: «أخوي طلب خط نت، قاموا أعطوه خمسين دينار».

جاسم الغيّاث مع حفيدته حلا في بيت الشعر الخاص بالعائلة.

يتلقى جاسم معونة من وزارة التنمية الاجتماعية قدرها 76 دينارًا، ويأخذ راتبًا عن وظيفته 200 دينار. ومثل علي، عرف عن الوظيفة من الحارس الذي كان قبله. واتفق مع الشركة شفهيًا: «لا عقد ولا معاقدة (…) متى يقول لك روح رحت».

تقرير سابق لحبر أشار إلى أن سبب تردي رواتب الحراس الذين توظفهم شركات الأمن والحماية يعود إلى أن عدد هذه الشركات أكبر بكثير من حاجة السوق، وأن هذا يدفعها «إلى تقديم عطاءات بأسعار منخفضة جدًا، وهو ما يضرّ بمصالح العمّال». ووفق علي الزبون، مدير إحدى هذه الشركات، فإن عطاء حراسة موقع ما، يمكن أن يصل إلى 260 دينارًا. ما يفسر دفع بعض الشركات رواتب أقل من الحد الأدنى للأجور، وعدم إشراك منتسبيها بالضمان الاجتماعي.

يقع البرج الذي يحرسه جاسم في جزء من الصحراء له طبيعة مختلفة عن منطقة الحجارة السوداء التي تقيم فيها عائلة علي. فحيث نصب خيمته، هناك في كل مكان كثبان من الرمل الناعم، شكّلتها العواصف الترابية التي تهب في المكان: «كل ما تيجي هبة ريح، يجينا تقول غيم مع الأرض. تمد إيدك ما تشوفها». داخل بيت الشعر، أشار جاسم إلى خط في قماش الخيمة يرتفع عن الأرض قرابة النصف متر، وقال إن الرياح تجمّع الرمل في كثبان تصل إلى هذا الخط، وتضغط على جوانب الخيمة من الخارج، فيتسبب ثقلها بتمزيق القماش مرة بعد مرة.

يقول جاسم إنه ليس سعيدًا في هذا المكان، فهو محاط بكل هذا التراب الذي يتنفسه طوال اليوم ويضطره في كثير من الأيام للذهاب الى المستشفى للحصول على تبخيرة، كما أن «العقارب زي النمل». تؤكد ذلك ابنته زينب: «ننام ونصحى الصبح نلقى العقارب تحت الفراش». وتضيف أن هناك أيضًا ثعابين، هاجمها إحداها الصيف الماضي، وقتله شقيقها بعصا.

جاسم الغيّاث أمام بيت الشعر الذي يسكنه والبرج الذي يحرسه.

يجلس جاسم طوال اليوم داخل بيت الشعر، ومن خلفه، على رفّ، صف دِلال القهوة، التي يقول إنه يهوى جمعها. وهو يمضي يومه في شرب القهوة، ولفّ وتدخين سجائر «الهيشة». عندما التقيناه، كانت زوجته في زيارة لابنتها في المفرق، وكان هو يفرد أمامه أكياس النايلون السوداء التي يحتفظ فيها بأدويته الكثيرة، ويقول إنه يفتقد زوجته كثيرًا عندما تغيب: «كبرنا وغدينا [نتوجع] بالليل. ما أنام. من الساعة ثلاث وأظل قاعد لهالساعة (…) وأظل أساهر المرة. يومٍ إنها كانت هان، تظل ساهرة طول الليل تغطيني».

يملك جاسم بيتًا صغيرًا في الرويشد، بناه في الثمانينات بشكل بدائي، ومن دون أعمدة: «خُشة والله ما يسكن بيها الضبع. خشة بلوكات مصفوفة، ومن فوق زينكو». اعتراضه ليس على السكن في بيت الشعر، فهو أصلًا لا يطيق البقاء في بيوت الإسمنت. وعندما كان في الرويشد، كان يبقى دائمًا في بيت شعر نصبه إلى جانب منزله: «بيت الشعر فَضيّ. بيت مفتوح. يجونك ناس، وتعلّق نار، وتساوي قهوة. ويجونك هالفريج [الحي]. وتروح على الجيران». ما ينغص عليه هو أنه معزول عن الناس: «مربوط بالبرج. والله يا عمي مربوط بالبرج (…) إلا حاجة ضرورية. البنات وأمهن يظلن هان يوم نروح على الرويشد. يوم أمهن ما هي هان، ما أقدر أخلّيهن».

جاسم الغيّاث في بيت الشعر الذي يسكنه.

إن هذا نقيض الحياة التي يريدها، والتي اعتاد عليها طوال حياته. وتلمع عيناه وهو يستذكر ما يقول إنها أجمل أيام حياته في الستينات والسبعينات، عندما كان يتنقل بأغنامه عبر الحدود المفتوحة: «تمشي وين ما وِدّك، ما حد يقول وين إنت». كان في تلك السنوات أعزب، فقد تزوج أول مرة أواخر الخمسينات، وأنجب طفلة وطفلًا كانا في عمر العشرة شهور، والشهر، عندما توفيت والدتهما بعد مرض مفاجئ. وكان الاثنان يرضعان منها: «هذاك اليوم، لا بز ولا حليب ولا شي. منين عاد نطعمهم؟ [فصرنا] نطحنلهم رز ونحطّ عليه سكر». الصغير عاش شهرين بعد أمه. أما البنت الكبرى، فتوفيت في عمر الخامسة عشرة، أيضًا بمرض مفاجئ. ظل جاسم بعد زواجه الأول أعزب 20 سنة، يتجول في الصحراء خفيفًا من بلد إلى آخر. وهو يتذكر أن هذه المرونة في عبور الحدود استمرت إلى الثمانينات. لقد كانت أيامًا: «الواحد ما يهكل هم، ويظل يركض، وراعي بنات (…) ويصير يفكر بهالعيشة، ويفكر لين صار عنده كومة عيلة».

«الفقر بين وعمى عين»، يقول جاسم، فبناته هن السبب في وجوده في هذه الوظيفة: «غصبن عليّ. هالأناثي وِدّي أطعمهن (…) وإلا أنا بهالعمر هذا، وهالتراب اللي تشوفينه من حولي، أقعد؟ والله ما أقعد سواد ليل». يقول إن أولاده «ما يقصّروا»، لكن لدى جميعهم عائلات، ورواتبهم مرهونة للبنوك، لقاء قروض أخذوها لبناء بيوتهم.

إنهن البنات الذي يقول فايز الرويلي (37 سنة)، ما يمنعه: «أمدّ إيدي للحرام». فايز هو حارس آخر، حصل على وظيفته قبل ست سنوات، وهو يقيم في المكان مع زوجته عجايب (29 سنة) وبناته صفاء (7 سنوات)، وفاء (6 سنوات)، ومروة (سنتان).

فايز الرويلي مع عائلته.

ومثل علي، فايز غير محدد الجنسية. ولد والده عام 1941 في الأردن، لجدّه الذي كان راعي أغنام، وعبر إلى الأردن عندما كانت الحدود مفتوحة. يقول إن والده حاول أكثر من مرة الحصول على الجنسية، ولم يفلح. ثم في عام 1994 تقدم أخوه الأكبر، الذي كان البالغ الوحيد بين الأبناء، بطلب جنسية، ولم يفعل ذلك والده الذي كان يئس من الرفض المتكرر بحسب فايز. حصل أخوه على الجنسية، وبقي أبو فايز وزوجته وأبنائه السبعة الذين كانوا وقتها قصّرًا من دونها إلى الآن.

يتلقى فايز 250 دينارًا راتبًا شهريًا، وأيضًا من دون ضمان اجتماعي، ولا إجازات. عمل منذ حصوله على الثانوية العامة العام 2001، راعي غنم، وعامل مياومة في المزارع، وحراسة المحاجر. لكنه كان يتعطل كثيرًا بسبب مشاكل في قرنيتي عينيه. لهذا عندما علم عن هذه الوظيفة، حمل أسرته إلى البرج الذي يبعد 40 كم تقريبًا عن منشية الغياث، حيث كانوا يقيمون في منزل والده، ونصب مع زوجته بيت الشعر المُخاط من بطانيات مطبوع عليها (UNHCR)، مفوضية الأمم المتحدة للاجئين، قال إنه جلبها من محلات في بلدة الزعتري، اشتراها أصحابها من لاجئين سوريين.

أثناء المقابلة، كنا نجلس في الكرفان المفترض أنه سكن الحارس. وكان فايز قد وضع فيه بضع فرشات اسفنجية قديمة، ويستخدمه كـ«مضافة» لمن لا يستطيع استقبالهم في بيت الشعر. ومثل البقية، قال إنه يلجأ إليه مع زوجته وبناته فقط عندما يكون هناك أمطار غزيرة جدًا، او رياح قوية يخاف الاثنان أن تقتلع بيت الشعر. يقول فايز إنهم طلبوا كثيرًا تزويدهم بحمام على الأقل، لكن من دون فائدة. في الأثناء هناك «أكوام رمل» قريبة من المكان، تستخدم لقضاء الحاجة.

بيت الشعر الذي تسكنه عائلة الرويلي والبرج الذي يحرسه.

في بيت الشعر، كان الستار مسدلًا على فتحة الباب، لكن أغنية كانت تنطلق من الداخل، وتقول كلماتها: «حياتي قصص حلوة وحكايات، أهل وصديقات، ورفيقة كل اللحظات، أحلى من أحلى الكلمات». كانت هذه أغنية لمسلسل كرتون يبثه جهاز تلفزيون قديم موضوع في صدر الخيمة، والبنات الثلاث جالسات أمامه يشاهدن باستغراق. في حين تجلس أمهنّ عجائب على البساط المهترئ الذي يغطي تراب أرضية الخيمة، متكئة بظهرها على شوالات علف الماعز التي احتفظت بها داخل الخيمة لتقيها من مياه الأمطار. تُعلّق أن التلفزيون هو تقريبا نافذة البنات الوحيدة على العالم في هذا المكان، الذي يعشن فيه معزولات. فقد كان من المفروض أن تكون صفاء ووفاء في المدرسة، لكن أقرب مدرسة للبنات تقع في الرويشد. «اضطرينا نأخّرهم عشان الشغل. لو دخّلناهم المدرسة ما في شغل. والسنة الجاي مفكرين ما ندخّلهم. ما في شي رح يتغير».

كان عمر صفاء أقل من سنتين عندما انتقل والداها للعيش بجانب البرج. وجاءت وفاء ومروة إلى العالم داخل هذه الخيمة. لا تعرف عجايب على وجه الدقة في أي شهر ولدت البنتان، لكنها تتذكر أن ولادة وفاء كانت في الشتاء، وولادة مروة في الصيف. وقت ولادة وفاء، أقامت عند أهلها في منشية الغياث ثلاث أيام، ثم عادت إلى البرج. وكانت هناك وقتها، قبل أن تجلب الشركة الكرفان، غرفة من الإسمنت، أصغر منه، هدمتها الشركة لاحقًا، وأقامت مكانها وحدات ألواح شمسية. إلى هذه الغرفة عادت عجايب، لتحتمي مع الرضيعة من مياه الأمطار التي هطلت بغزارة يومها. لكن الغرفة لم تحمهم: «ما نمنا ليلتها. كان الشباك ينزل ميّ علينا، والباب يفوّت ميّ. خفنا الغرفة تتعبّى، وما نلحّق حالنا (…) كنت أمسح الميّ برقعة شريطة».

أما مروة التي ولدت بخلع ولادة، وتشوهات خلقية في الشفتين وسقف الحلق، فتقول عجايب، إنها لتخفف عنها قيظ الصحراء: «كنت أبخّ لها الشرشف وأحطّه عليها من الحمّ. أحطه بميّ وأعصره وأحطّه عليها».

بنات فايز الرويلي، من اليمين: وفاء، ومروة، وصفاء.

عندما بدأت رحلة علاج مروة، كان التحدي الأكبر للعائلة هو ألا يُترك البرج وحيدًا. لهذا كانت عجايب هي من يتولى أمر المراجعات. لكن حدث مرة أن فايز كان مضطرًا لمرافقتها. حدث هذا العام الماضي، عندما أجريت لمروة عملية جراحية في مستشفى الرويشد، وعانت من مضاعفات دفعت المستشفى إلى تحويلها إلى مستشفى البشير في عمان. تقول عجايب إنها ركبت سيارة الإسعاف: «وظل فايز على التلفون». لكنه بعدها قرر اللحاق بهما. وعندما عادا وجدا بيت الشعر مسروقًا: «جرتين غاز، حرامات اثنين، مصاري، شامبو».

تقول عجايب إن كل ما تريده هو أن تعود إلى منزلها في منشية الغياث «وأقعد عند أمي وخوات جوزي وأدخّل بناتي المدرسة»، لكنها لا تعتقد أن هذا سيتحقق أبدّا. «كل سنة نقول يا ريت السنة هاي تتغير وما تتغير (…) شايفة العيشة هاي أبدية».

  • الهوامش

    [1]:  انظر/ي تقارير حالة الفقر في الأردن، التي أجريت استنادًا إلى مسوح نفقات ودخل الأسرة للأعوام من 2002-2010، المنشورة على موقع دائرة الإحصاءات العامة.

    [2]:  انظر/ي: معاهدة حدة (حدود شرقي الأردن الشرقية) 1925، ومعاهدة صداقة وحسن جوار بين إمارة شرق الأردن والسعودية لسنة 1933، وبروتوكول تنظيم حقوق الرعي والانتفاع من موارد المياه في منطقة الحدود بين الأردن والعراق، لسنة 1984.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية