جزيرة الورد: أينما تكونوا تدرككم الدولة

الأحد 20 آذار 2022
جزيرة الورد
البوستر الترويجي لفيلم جزيرة الورد من إنتاج نتفلكس.

جورجيو روزا مهندس إيطالي عبقري متهم بالجنون وبحب فتاة تدعى جابرييلا، وهي أستاذة في القانون الدولي، ترفض حبه وترتبط بغيره. في محاولاته لإثبات أن بإمكانه العيش في واقعه الخاص، على عكس ما تقول جابرييلا، يقرر روزا بناء جزيرته الخاصة على منصة خارج المياه الإقليمية الإيطالية، هربًا من سطوة القوانين الدولية والمحلية، وسرعان ما يذيع صيته وتأتيه الجموع لخوض التجربة. لكن الدولة، بنموذجها السلطوي العنيف، تأبى أن تترك روزا وأتباعه، فتسخر كل مواردها لهدم حلمه أمام عينه. إلا أنه يفوز بقلب حبيبته جابرييلا، ويذيع صيته في المدينة، ويصير الكل يناديه بالرئيس.

عاشت حكاية روزا كجزء من الحكايات التي يرويها الأجداد لأحفادهم داخل مدينة ريميني، وبعد أكثر من نصف قرن، ولدت القصّة من جديد ليعرف عنها العالم. إذ أعادت شبكة نتفليكس إحياء قصة أحد المجانين أو العباقرة، بإنتاج فيلم «جزيرة الورد» (Rose Island) عام 2020، بعد وفاة روزا بثلاثة أعوام. أقنع منتج الفيلم، ماتيو روفيري، روزا في أواخر أيامه بإحياء قصته على الشاشة قبل أن يغيّبه الموت، لتخرج قصته الشهيرة من مدينة ريميني في شمال إيطاليا إلى العالم أجمع. 

بين الدراما والواقع

نسج المخرج الإيطالي الشاب، سيدني سابيليا، خيوط فيلمه في إطار كوميدي ممزوج بالسخرية. في بداية جدية للفيلم، نرى روزا جالسًا داخل سيارته العجيبة التي اخترعها كمشروع تخرج، في أجواء شديدة البرودة في مدينة ستراسبورغ، حيث يعتصم أمام مقرّ المجلس الأوروبي، ليقدم نفسه كرئيس دولة، لكنّ الحارس يتعامل معه باعتباره مجنونًا. من هناك، يبدأ المخرج بالعودة إلى الوراء، في «فلاش باك» يعيدنا إلى روزا الشاب: خريج جديد من كليّة الهندسة، لامع وذكي به مسحة من الجنون، يريد أن يفوز بقلب حبيبته جابريلا بعدما هجرته بسبب عدم قدرته على التواصل مع محيطه الاجتماعي.

أقدم روزا على إقامة دولته الخاصة في منطقة حرة لا تخضع لسيطرة أي دولة، في المياه الدولية للبحر الأدرياتيكي، معلنًا بتجربته الهندسية الفريدة ميلاد أول دولة دون دماء أو قمع.

حاول السرد الدرامي تبرير فعلة روزا ومحاولته المجنونة برغبته الفوز بقلب حبيبته، وهو ما يتنافى مع القصّة الحقيقية، حيث بدأ روزا الحقيقي التفكير في مشروعه بعد الزواج من جابرييلا، ومضيا معًا في تنفيذ المشروع، حيث بحثت هي عن ثغرات في القانون الدولي تجعل من المستحيل ممكنًا، بينما عمل هو على التخطيط للبنية الهندسية لدولته. على عكس ما جاء في الفيلم، تزوّج روزا من جابرييلا عام 1958 وشرعا معًا في التفكير بدولتهما المستقلة، حسبما كتب سيفيرو بوش لصحيفة «سول كارلينو» في 22 تموز 1968، عن الجزيرة بعد إعلان استقلالها، خلال لقاء مع روزا وزوجته. يحكي روزا أنّ التفكير والتخطيط للجزيرة بدأ منذ عام 1958، والشروع في التنفيذ بدأ 1964، أمّا إعلان الاستقلال فكان عام 1968.

رغم أنّ تنفيذ المهمة استغرق قرابة 10 سنوات، ما بين الفكرة والتنفيذ والبحث عن التمويل، فقد قدم الفيلم القصة في غضون أربعة أشهر فقط. يمكن أن نحيل التحريف الدرامي إلى ما يتطلبه السيناريو وبنيته، غير أنّ الدافع الحقيقي لروزا كان أكثر جموحًا وتمردًا مما حاول الفيلم إظهاره. يوضح لورينزو، ابن جورجيو روزا، في تصريحه لشبكة بي بي سي بعد عرض الفيلم، عن والده: «كان والدي مهندسًا بالمعنى الألماني للكلمة، شخص دقيق ومنظم للغاية، مع لمحة من الجنون لازمت شخصيته، وهي ما دفعه لبناء تلك الجزيرة»، ويحكي الابن أنّ الأب كان لا يحب الحديث عن القصة، إذ يشعره ذلك بالحزن والحسرة على دولته المفقودة. 

أقدم روزا على إقامة دولته الخاصة في منطقة حرة لا تخضع لسيطرة أي دولة، على بعد 6.8 ميل من ساحل ريميني، في المياه الدولية للبحر الأدرياتيكي، معلنًا بتجربته الهندسية الفريدة ميلاد أول دولة دون دماء أو قمع، فاتحًا أبواب دولته الصغيرة أمام كل مريدي الانعتاق من سطوة الدولة الحديثة، ومن سئموا الصراعات المستمرة في أوروبا منذ بداية القرن العشرين، فهناك، في دولته، يفعل كل شخص ما يريده. 

إعادة إحياء القصة

نجح الفيلم في إعادة تقديم روزا بعد أكثر من نصف قرن على تدمير حلمه، في قالب بعيد عن التنظيرات الكبرى، ولا يخلو من الفكاهة أيضًا. من خلال أداء حساس من الممثل الإيطالي «إليو جيرمانو»، تجسّد روزا كرجل خفيف الظل، لا يعرف المستحيل، يتخيل شيئًا ولا يتوانى عن تنفيذه. على الجانب الآخر، ظهرت رموز الدولة (كوزير الداخلية، ووزير الدفاع، وأعضاء من الحكومة) مهرجين محدودي الذكاء، مشوشين ومتخبطين رغم كل ما لديهم من قوّة، أمام رجل بصحبة أربعة من أصدقائه، يمارسون ما يحبونه دون خوف أو تعقيدات، بذكاء بالغ وتنظيم احترافي.

بنى روزا جزيرته فوق سطح البحر ببراعة هندسية شهدت عليها صعوبة عملية الهدم، وعلى مساحة 400 متر مربّع، فوق أعمدة فولاذية مملوءة بالإسمنت لحمايتها من التآكل، وقسّمها إلى غرف صغيرة، بالإضافة الى مطعم وبار ومتجر للهدايا التذكارية ومكتب للبريد، واستطاع توصيل المياه العذبة، كما صمم طوابع بريدية خاصة، وأعلن الاسبرانتو لغة رسمية، لمحو أي تقاطعات مع إيطاليا وجيرانها. 

جزيرة الورد التي أقيمت في المياه الإقليمية للبحر الأدرياتيكي.

غباء السلطة المعتاد تسبب في نشر أخبار الجزيرة وتسليط الضوء عليها، في محاولة لتشويه سمعتها بإشاعة تعاطي سكانها للمخدرات، ما جعل آلاف الزوار يتوافدون على الجزيرة ويرسلون طلبات بريدية للحصول على جنسيتها. في وقت قصير وجد روزا شعبه المنشود، بعدما أعلن نفسه رئيسًا لجمهورية الورد، ليسرع إلى مدينة ستراسبورغ الفرنسية، طالبًا من المجلس الأوروبي الاعتراف بدولته رسميًا، قبل أن تنجح الدولة في الإطاحة بجمهوريته الوليدة.

لم يكن الفيلم أول ظهور لقصة روزا خارج حدود نشأتها، ففي عام 2009 نجح الناشر الإيطالي باولو إيميلو بيرسياني في إجراء لقاء مع روزا بعد مرور أربعين عامًا على تدمير حلمه، ونشر كتابه «جزيرة الورد». ويؤكد بيرسياني في مقدّمة الكتاب أن روزا رغم تجاوزه سن الثمانين، ما يزال «في عينيه بريق أولئك الذين يؤمنون بمثل أعلى، بما يكفي للقتال من أجله حتى النهاية». 

هربًا من الاغتراب

لا يمكن فصل تجربة روزا عن سياقها الاجتماعي والتاريخي، فالمهندس الإيطالي المولود في شباط عام 1925، بُعيد سنوات قليلة من انتهاء الحرب العالمية الأولى، عاش طفولته ومراهقته وسنوات شبابه الأولى تحت وطأة الحكم الفاشي لبينيتو موسوليني، والحرب العالمية الثانية. بتضافر كل هذه الظروف التاريخية، قدّم الحزب الشيوعي الإيطالي ملاذًا آمنًا لما يحمله من أفكار تاقت الجماهير إليها خلال سنوات الفاشية. بحلول عام 1948 بلغت عضوية الحزب مليوني مواطن، ليصبح ثاني أكبر حزب في البلاد، في الوقت نفسه الذي تحالفت فيه الدولة مع الولايات المتحدة الأمريكية وحصلت على عضوية حلف شمال الأطلسي مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، ثمّ بدأت تطبيق خطة مارشال كما كان مخططًا لكل دول أوروبا المنضوية تحت لواء المعسكر الأمريكي. 

نشر أخبار الجزيرة وتسليط الضوء عليها، في محاولة تشويه سمعتها بإشاعة تعاطي سكانها للمخدرات، جعل آلاف الزوار يتوافدون على الجزيرة ويرسلون طلبات بريدية للحصول على جنسيتها.

كان حضور الحزب الشيوعي الإيطالي راسخًا بين الطبقات العاملة التي تنتمي إليها عائلة روزا، خاصة في المدن الفقيرة مثل بولونيا (مسقط رأسه)، فضلًا عن انتماء الكثير من مثقفي إيطاليا ونخبها الفنية إلى الحزب. لا يوجد ما يؤكد انتماء روزا إلى أي حزب سياسي، لكنه بلا شك ابن تلك الأفكار التي بلغت أوجها في الخمسينيات والستينيات، ولا يمكن أن نفصل فعله الفردي للغاية عن سياقه الاجتماعي والسياسي. بل إنّ فعلته الطوباوية بدت محاولة لتحدي اغتراب إنسان القرن العشرين، المنهك بفعل حروب ممتدة لا ناقة له فيها ولا جمل، وواقع سياسي واقتصادي يفصله عن ذاته ورغباته، تحت شعارات مثل التنمية والتقدم والحضارة، لصالح نظام رأسمالي آخذ في التغوّل والصعود بعد انتهاء الحرب، وتقسيم العالم إلى معسكرات ستؤول في النهاية إلى معسكر واحد. 

من خلال الرؤية الماركسية للاغتراب الذي ترسخ في القرن التاسع عشر، لم يعد الناس يختبرون أنفسهم كعوامل بشرية نشطة قادرة على السيطرة الواعية على ظروف حياتها. إذ تظل أنشطتهم الإنتاجية الخاصة، وإبداعاتهم الإنسانية في مختلف المجالات، والعلاقات الاجتماعية وتفاعلاتهم مع الطبيعة عمومًا، غريبة وخارجة عن متناولهم، وتخضع كلها لسيطرة قوى خارجة عنهم، وهم يمتثلون لها بشكل لا واعٍ. تجلى هذا الواقع الاغترابي الفج وترسّخ بفعل العالم الصناعي الجديد، مع تطور علاقة الإنسان بالآلة مقابل تفكك علاقته بنفسه، وبعمله، وبمحيطه الاجتماعي وعلاقته مع الطبيعة نفسها. فهل يمكن النظر إلى تجربة روزا كمحاولة للفكاك من الاغتراب وإعادة اكتشاف ذاته ومحيطه من خلال عالمه الخاص، كما تخيله وحققه كأمر واقع لا محض أفكار وأمنيات؟

الحالم الأخير

بينما كان طلاب فرنسا يجوبون الشوارع خلال احتجاجات أيار 1968، وهي شرارة انتقلت إلى العديد من أنحاء أوروبا، كان روزا يحارب لأجل دولته الوليدة، ولم لا؟ وهي ميلاد عصر شهد تغيّرات اجتماعية عنيفة، طالت شكل الدولة ومؤسساتها وعلاقتها بالمواطنين، في مرحلة ستتمكن فيها مؤسسة الدولة من التوغل إلى كلّ جوانب حياة لمواطنيها، بينما ترفع يدها تدريجيًا عن الاقتصاد وتتركهم فريسة للشركات العابرة للقارات. 

يقدّم الفيلم أيضًا، بشكل مبسّط، درسًا في مفهوم الدولة، يلخص مقومّاتها الحديثة. فعندما يتحدث روزا مع الوزير عبر الهاتف، يخبره الأخير أنّه أنشأ أيضًا دولة، لأنه كان أحد أعضاء الجمعية التأسيسية التي صاغت دستور الجمهورية الإيطالية، لذلك اعتبر أن كليهما من الآباء المؤسسين. لكن الفارق بين دولته التي يبلغ عدد سكانها 40 مليون نسمة وجزيرة روزا الصغيرة، هو أن إيطاليا تمتلك ترسانة أسلحة يمكنها تفجير الجزيرة إلى أشلاء. 

يتسلل الفيلم في مشاهد عدّة إلى القانون الدولي وطبيعته القمعية في الكثير من الأحيان، وكيف أنّ القوة والتفوق العسكري هي اللغة التي تتواصل بها الدول، لذلك لم تكن دولة روزا أبدًا لتقوم على أسس الحرية والسلام كما كان يحلُم. 

عاش روزا 92 عامًا، أي أنه عاش لنصف قرن بعد تدمير جزيرته، التي ظلّت أسطورة حيّة بين أهالي بولونيا، يتداولها الأبناء جيلًا بعد جيل، شاهدة على ما يمكن أن يصنعه الإبداع البشري في مواجهة الدولة، التي لم يبق لديها في مواجهته سوى المتفجرّات. ترجّل روزا في آذار 2017، تاركًا خلفه إرثًا من الجنون والعبقرية، يسعى لتذكيرنا بأن نأخذ الأحلام بجدية، مهما بدت مستحيلة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية